لعلنا لا نثير غضب أحد إذا ما أشرنا إلى أن المتأمل لأحوال الوطن العربى الذى يمزقه العنف والإرهاب؛ يجب أن يتوقف
أمام حقيقة لافتة: تكاد دولة إسرائيل أن تكون الدولة الوحيدة التى لم يلمسها أو يقترب منها مقاتلو داعش أو القاعدة أو الحوثيين وغيرهم ممن لا يفوتهم وهم يذبحون ضحاياهم مكبرين مهللين أن يستنزلوا اللعنات على إسرائيل واليهود والولايات المتحدة الأمريكية، ولعل جماهير عالمنا العربى تكاد تنفرد بالتعبير عن رفضها للاحتلال الصهيونى بحرق العلم الإسرائيلى ودهسه بالأقدام؛ وهى الظاهرة التى لا تعرفها إسرائيل مكتفية بمحاولة دهس الفلسطينيين بالأقدام؛ و المضى شوطا بعد شوط فى تقدمها العلمى لمنافسة الدول الغربية العظمى فى هذا المضمار متابعة قراءة الإسرائيليون و التطبيع
أرشيف التصنيف: مقالات
التوهج الديني وسياسة الانفتاح
يرتبط مصطلح الانفتاح لغويا بالحداثة والانطلاق وكلها ملامح إيجابية؛ ولكن سياسة الانفتاح التي تبناها الرئيس الراحل محمد أنور السادات ارتبطت بتوجهات فكرية إعلامية وسلوكية تروج للانغلاق ورفض التعايش مع الآخر؛ مما يبدو للوهلة الأولي أمرا عصيا علي الفهم.
ولكن بإمعان النظر قليلا يتضح لنا أن جوهر الانفتاح يتمثل اقتصاديا في انكماش دور الدولة ومؤسساتها وإطلاق العنان لحرية السوق وحرية الفكر. وقد يبدو ذلك أمرا إيجابيا لدى البعض؛ غير أن الانسحاب المفاجئ لتدخل الدولة يعني عمليا سيادة ما يعرف بمنطق السوق بمعني ترك السيادة للطرف الأقوى محليا وإقليميا ودوليا؛ و هو الأقدر بالتالي علي نشر فكره إعلاميا.
ومن ثم فقد أصبحت المؤسسات الوطنية الإعلامية والدينية الملتزمة بالتوجه السياسي للدولة الطرف الأضعف في المعادلة متابعة قراءة التوهج الديني وسياسة الانفتاح
متى وكيف تطرف المصريون؟
كنت أظن أن مسئولية ما نشهده من مظاهر تشدد دينى تقع على عاتق الدعاة ولكنى حين راجعت نفسى تبين لى أنه ليس صحيحا أن الداعية المتطرف يمكن أن يوجد جمهورا متطرفا، بل الأقرب للحقيقة أنه يخاطب جماهير جاهزة للتطرف متعطشة لغطاء دينى يرفع عن كاهلها التحرج من تطرفها.
حين يشاهد البعض متحسرا صورا للأسر المصرية فى الستينيات على الشواطئ وفى الجامعات يبدو له كما لو كنا جميعا آنذاك هكذا. إن جميع تلك الصور حقيقية بالفعل؛ ولكنها لا تعكس كل الحقيقة، فثمة من غابوا عامدين أو تم تغييبهم قصدا عن تلك الصور. إنهم أبناء التيار المصرى المحافظ بصرف النظر عن تواضع حجمهم النسبى آنذاك. متابعة قراءة متى وكيف تطرف المصريون؟
جماهيرية الداعية المتطرف …لماذا؟
يمر تعاطف الجمهور مع المتطرفين عبر الاقتناع برسائلهم الدعوية التى تكفل أرضية فكرية للممارسات الإرهابية، ولذلك يصبح السؤال لماذا يصدقونهم قبل أن نتساءل لماذا يتعاطفون معهم، وأيضا قبل أن نتساءل عن مصدر أفكارهم.
تفيض دراسات علم النفس الإعلامى بما يكشف عن أسس مصداقية الداعية، فأول ما يواجه به الدعاة السياسيون والدينيون هو «هل يتقاضى ذلك الداعية أجرا مقابل ممارسة الدعوة» متابعة قراءة جماهيرية الداعية المتطرف …لماذا؟
محمد المدنى و أفيجدور ليبرمان
لعل غالبيتنا يعرف أفيجدور ليبرمان، الذى هاجر إلى إسرائيل عام 1978، وأسس حزب إسرائيل بيتنا عام 1999، والذى أصبح يتمتع بشعبية بين نحو مليون مهاجر روسي، وتولى منذ مايو 2016 وزارة الدفاع الإسرائيلية المسئولة عن الدفاع عن إسرائيل حيال أى تهديد عسكرى داخلى أو خارجي.
وهنا يجب التعريف بشخصية فلسطينية قد لا تكون فى شهرة ليبرمان. إنه الصديق الفلسطينى محمد المدنى وكنيته أبويافع وهو اسم ابنه الأكبر. قدم محمد من صفوف عرب 48 ليلتحق بمنظمة فتح بالأردن ويصحبها فى رحلتها الدامية إلى بيروت ثم تونس؛ وخلال تلك الرحلة الطويلة يتوارى حلم عودة المدنى إلى القرية التى قدم منها؛ ومع بداية عصر اتفاقيات كامب دافيد ثم أوسلو لاحت فى الأفق البعيد إمكانية شاحبة لتحقيق الحلم. متابعة قراءة محمد المدنى و أفيجدور ليبرمان
من ناصر و طوغاى إلى السيسى وبوتسالى
تاريخ العلاقات المصرية التركية تاريخ بالغ التعقيد. تتداخل فى وعينا صورة التركى العثمانلى الذى حكمنا طويلا وعانينا من حكمه كثيرا؛ وتزاحمها لدى بعضنا صورة الخليفة العثمانى رأس الخلافة العثمانية الإسلامية التى دقت جيوشها أبواب أوروبا؛ وتحتفظ ذاكرتنا أيضا برأس الأسرة العلوية الذى يراه البعض مؤسسا لمصر الحديثة، فى حين يراه البعض فى النهاية حاكما أجنبيا لم يتخلص من جذوره التركية.
وتحل هذا الشهر ذكرى ثورة يوليو 1952وقائدها عبدالناصر؛ ويشهد هذا الشهر أيضا عام 2016 تقلصات شديدة تنتاب الجمهورية التركية؛ وتتناقل أجهزة الإعلام تصريحات منسوبة للرئيس التركى ومدير المخابرات التركية تتحدث عن عظمة التاريخ العثماني؛ وتكرر مآخذهم على مصر وما جرى ويجرى فيها. ولا يستطيع المرء أن يتحاشى العودة لتاريخ العلاقة بين ثورة يوليو والجمهورية التركية؛ وتقفز إلى الذاكرة واقعة حدثت قبيل مضى عام واحد على ثورة يوليو 1952. متابعة قراءة من ناصر و طوغاى إلى السيسى وبوتسالى
عبدالناصر والسؤال القائم
حلت هذا الشهر ذكرى ثورة ٢٣ يوليو؛ ويحمل هذا الشهر ذكرى شخصية ترتبط بملمح من ملامح حقبة عبدالناصر؛ ففى ٢٥ يوليو ١٩٦٣ خرجت من المعتقل ومعسكر التعذيب لأواجه الحياة من جديد بعد ما يقرب من أربع سنوات. كان الاعتقال مختلفا آنذاك. لم نكن قد سمعنا عن مؤسسات حقوق الإنسان ولا عن ضرورة العرض على النيابة إلى آخره. كانت التفرقة واضحة صارمة آنذاك بين «المسجون السياسى» الذى صدر بحقه حكم قضائى ويخضع للائحة السجون التى تسمح بالزيارات واللجوء للقضاء تظلما، و«المعتقل» المحروم من كافة تلك الحقوق الذى لم يكن فى مقدور أسرته معرفة مكان احتجازه؛ واتضح ذلك الفارق حين جمعنا معتقل الواحات فكنا نعتمد فى أخبارنا ومؤونتنا على أصدقائنا من المسجونين الذين صدرت بشأنهم أحكام. وكلما هلت ذكرى يوليو وجدت نفسى أواجه سؤالا هاما: كيف يمكن تقييم «عصر عبدالناصر»؟، ذلك العصر الذى مازالت جماهير غفيرة من المصريين تحمل صور عبدالناصر كلما ضاقت بهم الحياة.
من الناحية المنهجية والوطنية أيضا ينبغى الحذر من أن يندفع المرء تحت وطأة معاناته الشخصية وإدانته لسلبيات حقبة تاريخية طالته آلامها إلى تجريد تلك الحقبة من أى إيجابية، أو تلويث تلك الإيجابيات؛ ومن ناحية أخرى لا ينبغى أن يندفع المرء فى سبيله للدفاع عن إيجابيات مرحلة تاريخية إلى حد ألا يرى أخطاءها وأن يبرر خطاياها؛ فمثل ذلك الموقف لا يعتبر خطأ منهجيا فحسب بل هو أيضا خطيئة سياسية ووطنية؛ حيث يؤدى عمليا إلى تكريس تقديس رموز بشرية تاريخية، ومن ثم ينزلق إلى تبرير الخطايا بحيث يقر فى الذهن أن تلك الخطايا لم يكن ممكنا تلافيها وتحقيق المنجزات بدونها، ومن ثم فلا بأس من تكرار نفس الخطايا إذا ما صاحبتها منجزات.
إن الدفاع عن الناصرية –فيما أري- لا يعنى تبرير انتهاك الحريات وتعذيب المعتقلين إلى حد القتل، ومن ناحية أخرى فإن معارضة الناصرية لا تعنى إدانة الانحياز للفقراء وبناء السد العالى إلى آخره.المرء غير ملزم بالدفاع عن تاريخ جماعته التى ينتمى إليها وتنقية صفحتها مهما شهد ذلك التاريخ من مظالم. ليس علينا لكى ندافع مثلا عن تاريخنا الفرعونى ونفخر به أن يقتصر حديثنا على ما يحفل به التاريخ الفرعونى من منجزات علمية وحضارية باهرة، دون أن نشير إلى تأليه أجدادنا لحكامهم. ولا يفرض علينا انتماؤنا للتاريخ الإسلامى أو المسيحى أن نركز على روحانية الدين وسمو القيم التى نادت بها الأديان، وأن نطمس على تلك الدماء التى سالت فى معارك بين بشر يحملون رايات دينية ويزعمون أو حتى يؤمنون بأن قتالهم إنما هو دفاع عن التفسير الصحيح للعقيدة؟.. بعبارة أخرى ليس ثمة ما يبرر تنزيه بشر عن الخطأ بل عن الخطيئة. لقد كانت تلك الحقبة الناصرية حافلة بالإنجازات والانكسارات. إنها الحقبة التى شهدت قرارات الإصلاح الزراعى وتأميم قناة السويس ثم تأميم الشركات الكبرى وبناء السد العالى، وهى أيضا الحقبة التى كرست سلطة الحزب الواحد، وهى ذات الحقبة التى شهدت للمرة الأولى فى تاريخ مصر تكريسا رسميا لفصل الذكور عن الإناث فى التعليم الجامعى بإنشاء كليات جامعة الأزهر وكلية البنات، وهى الحقبة التى شهدت قيام الوحدة المصرية السورية كما شهدت انهيارها، وهى الحقبة التى شهدت أعنف حملات اعتقالات وتعذيب للمنتمين لكافة التنظيمات السياسية المعارضة، وهى الحقبة التى شهدت واحدة من المرات النادرة التى خرج فيها الجيش المصرى ليقاتل وتسيل دماؤه خارج حدوده الوطنية فى اليمن، حيث فقدنا ما يزيد على ١٥ ألف شهيد، وهى الحقبة التى شهدت أيضا اختيار عبدالناصر لأنور السادات نائبا له بعد هزيمة ١٩٦٧ التى سالت فيها على أرض سيناء دماء ما يقرب من ١٠ آلاف شهيد. إنها حقبة شهدت ما هو إيجابى وما هو سلبى وما هو مثير للجدل؛ وكانت الحقبة بكل ما فيها تحمل اسم عبدالناصر وتحت مسئوليته.
ترى ماذا بقى من عبدالناصر بعد كل تلك السنوات يلهب حماس الجماهير ويجعلها ترفع صورته وتهتف باسمه وتردد أغانى عصره فى كل مناسبة احتجاجية؟. لقد مضى عبدالناصر وانتهى عصره، ولم يعد ثمة إغراء بمنصب ولا تخويف بعصا، بل إن بعضا ممن يهتفون باسمه ويرفعون رايته حتى اليوم أصابهم من عنت السلطة الناصرية الكثير، وكثير منهم لم يعاصروه. ولعل الاقتراب من هتافات المحتفلين بعبدالناصر يكشف بيسر أنهم يرون فيه رمزا للعدل الاجتماعى ولطهارة اليد وللاستقلال الوطنى وللانحياز للفقراء بحيث تخفت لديهم ملامح الديكتاتور المتسلط.
ويبقى السؤال قائما: ترى ألم يكن ممكنا بناء السد العالى وتأميم قناة السويس والسعى نحو العدل الاجتماعى دون قهر أو تعذيب؟، وهل استمرار توهج صورة عبدالناصر يعنى أننا ما زلنا على استعداد لتقديم حريتنا قربانا لهدف نراه الأسمى، كالعدل الاجتماعى أو التحرر الوطنى أو مكافحة الإرهاب؟، وهل تلك المقايضة حتمية أى أننا لا نستطيع أن نحقق عدلا اجتماعيا وتحررا وطنيا ومقاومة فعالة للإرهاب، مع الحفاظ على القدر الضرورى من الحرية وكرامة الإنسان؟.
أظنه حلما ولكنى أعتقده مازال ممكنا؛ مواجهتنا الشرسة والضرورية للإرهاب، وهى مواجهة موقوتة مهما طالت، تفرض علينا تأجيل الحلم دون نسيانه مع استمرار التذكير به من أجل المستقبل.
على هامش مذبحة باريس
قتل ٨٤ شخصًا على الأقل وأصيب العشرات بينهم ١٨ فى حالة حرجة عندما اقتحم شاب فرنسى مسلم من أصول تونسية يدعى محمد لحويج بوهلال، ويبلغ من العمر ٣١ عاما، كان يقود شاحنة، حشدا من المحتفلين بالعيد الوطنى الفرنسى فى مدينة نيس جنوب فرنسا، وقد قال الرئيس الفرنسى فور الحادث فى خطاب متلفز إن «فرنسا تحت تهديد إرهاب الإسلاميين».
لست من أهل التخصص فى الدراسات الدينية، ولذا فلن يتجاوز حديثى حدود متخصص فى علم النفس السياسى يحاول أن يفهم سلوك البشر فى ممارستهم لحياتهم الفكرية والاجتماعية. ومن هذا المنطلق المحدد ينبغى التمييز بين الرسائل الإلهية وسلوك البشر الذين تلقوها وانضووا تحت راياتها.
إن الكتب السماوية كتب خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع الاجتماعى السياسى، ومن ثم فإن تفسيرات البشر لم تنقطع لتلك الكتب التى يؤمنون بها فضلا عن تلك التى يؤمن بها غيرهم، ونستطيع أن نقرر دون خوض فى التفاصيل أنه لا توجد جماعة لم تلتمس فى كتابها المقدس ما يبرر العنف والقتل والإبادة، وأيضا ما يبرر المسالمة والموعظة الحسنة، دون أن ينتقص ذلك التباين بطبيعة الحال من قدسية الكتب السماوية. إنه اختلاف بين اجتهادات البشر، ويعلم الله بمن اجتهد فجانبه الصواب ومن اجتهد فأصاب، ومن أوّل فتعسف فى التأويل إفراطا أو تفريطا لغرض فى نفسه: نفاقا أو خوفا أو طمعا. الأمر المؤكد أن الجميع قد وصفوا تأويلاتهم بأنها التأويلات الصحيحة المعتدلة المعبرة عن جوهر الدين.
لعل أحدًا لم يعد يجادل فيما أكدته دراسات علم النفس السياسى من تأثير الدين على السلوك، ولذلك لم يكن مستغربا أن يلجأ البشر على اختلاف نوازعهم لالتماس السند الدينى لتصرفاتهم أيا كانت، فوجدنا يهودا يلتمسون فى آيات العهد القديم ما يبرر لهم القتل وسفك الدماء دون تمييز، ويغضون الطرف عن آيات تحرم القتل والسرقة والنهب وتنهى عن مجرد التفكير فى الشر وتحذر من إيذاء الغرباء، ووجدنا مسيحيين يلتمسون فى آيات العهد الجديد ما يبرر التعذيب والقتل رغم كثرة الآيات التى تدعو إلى التسامح والحب، ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لنا كمسلمين فقد وجدنا من يعتبر أن كافة آيات التسامح والمسالمة قد نسخت ولم يعد أمام المسلمين سوى قتل من يخالفونهم العقيدة. إن جرائم المتطرفين من اليهود الذين يرفعون راية التوراة غنية عن البيان، ولعلنا لسنا فى حاجة إلى إعادة التذكير بها، وفى المقابل نجد من اليهود من وقفوا بصلابة ضد كافة مظاهر التمييز العنصرى، وضد إبادة الفلسطينيين وتدمير منازلهم. كذلك فقد أقدم المتطرفون من المسيحيين فى العصور الوسطى على تعذيب المهرطقين، وقتال أتباع نفس الكتاب ممن يختلفون مع تأويلهم له، فضلا عن شن حروب الفرنجة تحت راية الصليب، وفى المقابل نجد من المسيحيين من يناضلون بحق ضد كافة ممارسات القتل والتمييز.
ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا نحن المسلمين، ولعلنا لسنا فى حاجة للخوض فى تاريخ قديم نسمع عنه وقد نختلف حوله. يكفى أن ننظر حولنا الآن لنرى من يمارسون بالفعل أعمال القتل والتدمير معلنين أنها تمثل روح الإسلام وجوهره. إن قادة البعض يعلنون أن آية السيف قد نسخت كافة آيات المسالمة، وفى المقابل نجد منا من يعلنون بشجاعة ووضوح أن ذلك الزعم بأن آية السيف قد نسخت ١٢٠ آية من آيات الدعوة لا أساس له من الصحة، وأن جوهر الدعوة الإسلامية كان وما زال هو التسامح والحرية.
والسؤال الآن: ترى هل على المرء أن يدافع عن كافة تصرفات من ينتمون لجماعته الدينية مهما كانت دموية تلك التصرفات؟، هل ثمة بشر لا يخطئون؟، ترى هل على المسلم أو المسيحى أو اليهودى أن يحمل على عاتقه وقائع مخضبة بالدم لأنها لصيقة بمن ينتسبون إلى دينه؟، هل تفرض الأخوة الدينية على المرء أن يضع فى سلة واحدة أبناء جماعته الذين يدافعون عن التسامح والحرية مع من غامروا بحياتهم فى سبيل القتل والترويع؟، هل من المقبول أن يدين المرء تعصب الآخرين وجرائمهم دون أن يدين وبنفس القوة تلك الجرائم المنسوبة إلى أتباع دينه؟.
إن حقائق علم النفس السياسى فضلا عن وقائع التاريخ تبرز حجم الخسائر الباهظة التى تكبدتها وتتكبدها البشرية من جراء تشويه طبيعة الالتزامات التى يفرضها الانتماء للجماعة سواء كانت جماعة دينية أو سياسية أو قومية أو حتى أسرية. خلاصة القول: ثمة خيط رفيع ينبغى أن يفصل بين رسائل السماء الإلهية وممارسات البشر الدنيوية، وإذا ما اختفى ذلك الخيط، أصبح فى مقدور فرد أو جماعة أن يعلن أنه وحده صاحب القول الفصل فى مقاصد السماء، وأنه ظل الله على الأرض والناطق الأوحد باسمه تعالى. ومن ثم فلم يعد إصلاح خطابنا الدينى الإسلامى مجرد ضرورة فكرية؛ بل أصبح ضرورة حياة فى هذا العالم المضطرب. لا بد من صرخة عالية واضحة لا تلعثم فيها يساندها سلوك فعلى يجسد بشكل ملموس أن فهمنا وتأويلنا للإسلام لا مكان فيه لمحاولة إبادة الآخر المختلف أو حتى التضييق عليه.
تناقض موهــوم «2»
عرضنا فى المقال السابق لعدد من أوجه التطابق اللافتة التى تجمع بين الدولة العقائدية الدينية والدولة العقائدية العلمانية؛ ومن أبرز تلك التطابقات أن كلتا الدولتين تقوم على نص مسبق مكتمل، وإذا كان منطقيا أن الدولة العقائدية الدينية تقوم على كتب سماوية إلهية خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع السياسى الاجتماعى التاريخي؛ فإنه من اللافت أن يحظى الكتاب المؤسس للدولة العقائدية العلمانية بتلك المسحة اللاهوتية التى تكاد تغلف ذلك النص البشري. لقد كتب كارل ماركس (1818-1883) كتابه الشهير «رأس المال» وأصدر عام 1848 بيانه الشهير «البيان الشيوعى» ووضع أسس المادية الجدلية والمادية التاريخية؛ ثم جاء لينين متابعة قراءة تناقض موهــوم «2»
إلى فضيلة الإمام الأكبر
سيدى الإمام الأكبر..
العبد الفقير إلى ربه تعالى ولد مسلما فى كنف أسرة مسلمة، شهادة ميلادى التى أصدرتها وزارة الصحة المصرية حملت توصيفى مسلما قبل أن أنطق حرفا أو أعى شيئا، وتكرر ذلك التوصيف ببلوغى الثامنة عشرة وإصدار وزارة الداخلية المصرية رقما قوميا يحمل اسمى وديانتي.
ظللت هكذا سيدى الإمام سنوات عديدة مسلما بحكم العادة والميلاد، وحين نضج وعيى وأصبحت قادرا –أو هكذا ظننت- على التمييز بين العقائد والديانات المختلفة اخترت الإسلام دينا، وأحسست وقتها باتساع الهوة بين الإسلام الذى اخترته وممارسات العديد من المسلمين الذين يحملون راياته، وأصبح يحز فى نفسى باعتبارى مسلما حين أسمع الصيحات تتعالى بالربط بين الإسلام والإرهاب، وكنت أتمنى أن أجد مساحة فى عقلى تسمح بفصل قاطع بين الإسلام والإرهاب باعتبار ذلك الربط مجرد مؤامرة خبيثة محكمة أعدها أعداء الإسلام، ولكنى بصراحة أجد تعنتا فى التماس تلك المساحة. الإسلام عقيدة، وشأنها شأن غيرها من العقائد، لا ترى مجسدة إلا فى سلوك وأفعال وممارسات معتنقيها التى تجسد أفكارهم. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن خجلى يسبق فزعى حين أرى الجلادين القتلة يعلنون انتماءهم تحديدا للسنة التى نعتبر أزهرنا الشريف منارتها الشامخة، وهم يكبرون باسم الله قبل ذبح ضحاياهم، وتحمل راياتهم السوداء كلمات الشهادتين.
إن تأكيد أن الإسلام يحرم القتل والتعذيب لم يعد كافيا، وكذلك فإن محاولات الفصل بين العقيدة ومعتنقيها لم تعد تجدى كثيرا إذا ما وقفت عند حدود غمغمات لا تبين ولا تحمل ردودا قاطعة على المنطلقات الفكرية المتخلفة لأولئك الذين يزعمون انتماءهم للإسلام ويرفعون راياته. وإنى لأعرف أن تلك الردود القاطعة ليست بالأمر السهل، خاصة أن البشاعة لا تقتصر على الذبح وقطع الرؤوس، بل لعل ذلك مجرد قمة جبل الثلج الظاهرة التى ترتكز على ركام هائل من الأفكار المعادية للتحضر كما نعرفه فى عالم اليوم.
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع وواضح – كما قلتها فضيلتكم فى لقائكم مع بابا الفاتيكان- أنه لا يوجد نص فى القرآن الكريم ولا فى السنة المطهرة يحدد عقوبة دنيوية للمرتد؟ صحيح أن فضيلتكم قد قلتها، ولكنى لم أسمع أحدا يرددها على منابر مساجدنا، فضلا عن أن يجعلها موضوعا لخطبة الجمعة مثلا، بل لعلى كثيرا ما أسمع العكس.
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع واضح وأن يدعو خطباء المساجد ودعاة القنوات التليفزيونية إلى تأكيد وتكرار أن من يتمسك بالإسلام ترهيبا لمجرد خوفه من عقاب دنيوى لا يضيف إلى الإسلام ولا إلى المسلمين قوة يضيفها من يتمسك بالإسلام اختيارا واقتناعا ويقينا؟
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع واضح وأن يدعو خطباء المساجد ودعاة القنوات التليفزيونية إلى تأكيد وتكرار أن أداء العمرة ليس من أركان الدين، وأنه إذا كنا نعانى من عجز رهيب فى العملات الأجنبية؛ فإن الأزهر يدعو الحكومة إلى تنظيم رحلات العمرة وأيضا تنظيم الرحلات السياحية للخارج بما يحفظ لنا ما تبقى من قدرة اقتصادية؟
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع وأن يدعو خطباء المساجد ودعاة القنوات التليفزيونية لتأكيد وتكرار أنه لا شأن مطلقا لآحاد المسلمين بالتصدى لبناء دور عبادة غير المسلمين، وأن المسلم الحق لا تجرح مشاعره رؤية صليب أو سماع قداس، وأن ما ينبغى أن يهز كيانه فعلا رؤية قوم يرتكبون المذابح ويرفعون شعارات إسلامية؟
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع وأن يدعو خطباء المساجد ودعاة القنوات التليفزيونية لتأكيد وتكرار أن جلجلة مكبرات الصوت لا تعنى علو صوت الإسلام، وأن الإسلام لا يعلو بطول المآذن ولا بمكبرات الصوت، بل بتقديم القدوة باعتباره دين الرحمة فيترأف بالبشر الذين يضرهم الضجيج، خاصة أن العلم الحديث يحدد درجة معينة للذبذبات الصوتية يصبح تجاوزها ضارا للجهاز السمعي؟
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع واضح، وأن يدعو خطباء المساجد ودعاة القنوات التليفزيونية إلى تأكيد وتكرار أن الاستفادة من أجساد الموتى لصالح الأحياء أمر جائز ومطلوب شرعا سواء بتشريح الجثث أو بنقل الأعضاء، وأن شيئا من ذلك لا يقلل من احترام المتوفى؟
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع واضح وأن يدعو خطباء المساجد ودعاة القنوات التليفزيونية إلى تأكيد وتكرار أن من غش فليس منا، وأن من يغش فى الامتحانات الدراسية ومن يشجع أبناءه على ذلك يخرج على أصول الإسلام؟
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع واضح وأن يدعو خطباء المساجد ودعاة القنوات التليفزيونية إلى تأكيد وتكرار أن الدعاء بالشفاء والصحة والسعادة ورفع الظلم وتفريج الكرب لو شمل عباد الله جميعا لا ينقص من نصيب المسلمين شيئا من ذلك كله، وأن تخصيص الدعاء للمسلمين وحدهم لا يعنى أننا نتمنى لغيرهم الحرمان من رحمته تعالي؟
هل يمكن مثلا أن يعلن الأزهر رسميا وبشكل قاطع واضح وأن يدعو خطباء المساجد ودعاة القنوات التليفزيونية إلى تأكيد وتكرار ما تؤكده العلوم الاجتماعية خاصة علم النفس السياسى من أن من يحسون بهشاشة عقيدتهم هم الذين تستفزهم شبهة إهانة العقيدة، ويتخوفون من اعتبار التسامح ضعفا، فى حين أن التدين المطمئن يرسخ لدى أصحابه أن عقيدته لا تهتز بل تزداد رسوخا بتسامحهم وسعة صدرهم.
فضيلة الإمام الأكبر لعلى لم أتجاوز حدودي.