في الاطار للعام للصراع العربي الاسرائيلي, يتناول الكاتب من وجهة نظره الأوضاع الراهنة لخريطة أطراف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي, وهو يرصد في مقال اليوم, طبيعة ومواقف أطراف هذا الصراع وعلاقاتها وفق حيثيات يستند إليها. ويتناول في مقال آخر, الاربعاء القادم, جوانب التناقضات الداخلية في صفوف هذه الأطراف*
يوحي تعبير الصراع الفلسطيني الاسرائيلي للوهلة الأولي, بأن الصراع إنما يدور بين طرفين: الطرف الفلسطيني في جانب, والطرف الإسرائيلي في الجانب الآخر. ورغم أن هذا التصور قد يكون مازال صحيحا في مجمله, رلا أن مجريات الأحداث التي صاحبت ونجمت عن تداعيات التسوية السلمية الجارية, قد تتطلب قدرا من إعادة النظر في هذا التصور.
وأهم ما يعنينا من أسس تلك التسوية, وهي الأسس التي يدور حولها الصراع, يتمثل في أمرين أساسيين متكاملين هما:
الأمر الأول: استبعاد فكرة إسرائيل الكبري أو أرض الميعاد. وبالتالي استبعاد كافة الدعاوي الصهيونية التاريخية والدينية والايديولوجية التي تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة جزءا لا يتجزأ من أرض إسرائيل, دون أن يعني ذلك استبعادا تلقائيا لما يسمي بالضرورات الأمنية وما إلي ذلك من مبررات تسمح بالتفاوض حول وجود إسرائيلي ما بشكل دائم أو مؤقت في تلك المناطق.
الأمر الثاني: استبعاد فكرة وحدة التراب الوطني الفلسطيني. وبالتالي استبعاد الحجج التاريخية والدينية والايديولوجية التي تعتبر ان اسرائيل بكاملها كيانا مغتصبا لأرض فلسطينية, دون ان يعني ذلك بطبيعة الحال استبعادا تلقائيا تاما للهوية الفلسطينية.
وما أن بدأت عجلة هذه العملية السياسية في التحرك, خاصة بعد اتفاق أوسلو, حتي برز للعيان انقسام مواقف كل من المعسكرين الفلسطيني والاسرائيلي, بحيث أصبح الصراع يدور في حقيقة الأمر بين أطراف خمس وليس بين طرفين فحسب. وتداخلت العلاقات تشابكت بين تلك الزطراف, بحيث أصبحنا في حاجة لرسم خريطة جديدة للصراع تيسر لنا محاولة فهمه.
ونستطيع أن نحدد تلك الأطراف الخمسة بصورة أولية علي الوجه التالي:
1ـ طرف فلسطيني يتبني عملية التسوية. ويتمثل هذا الطرف أساسا في ذلك القطاع من منظمة التحرير الفلسطينية وعلي رأسه أبوعمار قائد فتح, رئيس منظمة التحرير, رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية التي أفرزتها اتفاقات أوسلو. ويستند تأييد هذا الطرف لعملية التسوية لمبررين متداخلين علي الوجه التالي: المبرر الأول, أنه يري فيها السبيل الوحيد الممكن لإنقاذ مايمكن إنقاذه في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة. والمبرر الثاني, أن هذه العملية مجرد بداية لتداعيات متتالية سوف تصب في النهاية في مصلحة الشعب الفلسطيني. ويلقي هذا الطرف مساندة إقليمية بدرجات متفاوتة من عدد من الدول العربية كمصر والأردن والسعودية, فضلا عن مساندة دولية بدرجات متفاوتة أيضا.
2ـ طرف فلسطيني يعارض عملية التسوية. وعلي رأس هذا الطرف منظمتي حماس والجهاد الاسلامي. بالإضافة إلي بعض قطاعات وقيادات تاريخية من منظمة فتح, ويضم هذا الطرف كافة الفئات والتنظيمات الفلسطينية التي تتحفظ علي اتفاقات أوسلو أو تعارضها بدرجة أو بأخري. وتستند معارضة هذا الطرف للعملية السياسية الجارية أيضا لمبررين متداخلين: المبرر الأول, أنه يري فيها من التنازلات المبدئية مالا تبرره الظروف الدولية والعربية الراهنة. والمبرر الثاني, أ هذه العملية مجرد بداية لتنازلات متتالية سوف تصب في النهاية في مصلحة إسرائيل. ويلقي هذا أيضا مساندة إقليمية بدرجات متفاوتة من عدد من الدول العربية كالسودان وليبيا وسوريا فضلا عن إيران. ويفتقد هذا الطرف أية مساندة دولية رسمية معلنة.
3ـ طرف إسرائيلي يتبني عملية التسوية. وعلي رأس هذا الطرف حزب العمل وحلفاؤه من حزب ميريتس وغيره من الأحزاب والتجمعات الإسرائيلية اليسارية. ويستند الجانب الإسرائيل المؤيد لعملية التسوية لمبررين متداخلين: المبرر الأول, أنه يري فيها السبيل الوحيد الممكن لاندماج إسرائيل في المنطقة الإقليمية, وهو الأمر الذي لا خيار فيه في ظل الظروف الدولية الراهنة. والمبرر الثاني, أن هذه العملية مجرد بداية لتداعيات متتالية سوف تصب في النهاية في مصلحة إسرائيل. ويلقي هذا الطرف مساندة إقليمية بدرجات متفاوتة من الدول العربية المساندة لاتفاقية أوسلو, فضلا عن مساندة من المجتمع الدولي.
ونستطيع أن نتبين داخل هذا الطرف تيارين متمايزين: التيار الأول, تيار يمكن أن نطلق عليه اسم تيار السلام الاندماجي, وهو أميل إلي تصور أن إزالة أسوار الكراهية بين الشعبين الفلسطيني والأسرائيلي هو الضمانة الأساسية للسلام, ولذلك فليس غريبا مثلا أن تداوم شالوميت آلوني ـ حتي خلال شغلها لمنصب وزاري ـ علي إدانة قرارات إغلاق المناطق كلما اتخذتها الحكومة. والتيار الثاني, تيار يمكن أن نطلق عليه اسم تيار السلام الانفصالي, ولعل أفضل تعبير عن فكر هذا التيار ما ورد علي لسان حاييم رامون في حوار بثه مترجما للعربية تليفزيون إسرائيل في حوالي السادسة من مساء يوم الاحد1996/3/13, لقد اتهم رامون أنصار الليكود بأنهم حريصون علي عدم فك الاشتباك مع الفلسطينيين بالتمسك بالمستوطنات, والدعوة إلي إعادة الجيش إلي غزة لضمان الأمن, مرجعا ذلك إلي أن فكرة أرض الميعاد مازالت مسيطرة عليهم. وهو يري أن السلام لا يتحقق إلا بالفصل بين الشعبين فصلا ماديا كاملا, فهم شعبان قد تبادلا الكراهية والعنف لفترة طويلة والاحتكاك بينهما سوف يجدد العنف من جديد. حتي لو طلبوا هم الوحدة معنا ينبغي أن نرفض.
4ـ طرف إسرائيلي يعارض عملية التسوية. وعلي رأس هذا الطرف حزب التكتل برئاسة ينيامين نتانياهو, ويضم كل من هم علي يمينه من أحزاب دينية ومنظمات يهودية متطرفة, وتستند معارضة هذا الطرف لعملية التسوية أيضا لمبررين متداخلين: المبرر الأول, أنه يري فيها من التنازلات المبدئية مالا تبرره الظروف الدولية والعربية الراهنة. والمبرر الثاني, أن هذه العملية مجرد بداية لتنازلات متتالية سوف تصب في النهاية في مصلحة الفلسطينيين. ويفتقد هذا الطرف أية مساندة رقليمية أو دولية مباشرة, وإن كان يحظي بدعم ومساندة العديد من المنظمات اليهودية المتطرفة في العالم, وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
5ـ طرف فلسطيني متميز يتمثل في الفلسطينيين الذين ظلوا في أرض فلسطين ولم يغادروها عند الاجتياح الصهيوني. ويستحق هذا الطرف وقفة متأنية.
لقد ظل الخطاب العربي السياسي منذ1948 حتي1967 يتبني شعار تحرير فلسطين, بما يعني أن مقاليد ذلك التحرير المرتقب في أيدي الدول العربية. وتحول ذلك الشعار مع يونيو1967 ليصبح الهدف هو إزالة آثار العدوان, أي السعي للعودة الي حدود4 يونيو1967. وكان طبيعيا أن يتلقي الفلسطينيون الرسالة, وأن يعيدوا حساباتهم وفقا لها: أن يتولي الفلسطينيون مباشرة مسئولية السعي لحل مشكلتهم مرحبين بأي دعم عربي, محاولين قدر ما وسعهم الجهد الاحتفاظ باستقلالية قرارهم الخاص عن القرار العربي العام بإزالة آثار العدوان, وإن كان ثمة مساحة مشتركة بين التوجهين تتمثل في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهي الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام1967. وتجسد الفعل الفلسطيني من خلال تلك المساحة المشتركة في الانتفاضة الفلسطينية التي كانت بمثابة التطوير الناضج للعمليات الفدائية التي استمرت منذ1967 واتخذت في البداية ولفترة طويلة صورة العمل الفدائي المسلح الذي لا يقتصر علي الضفة والقطاع.
ولقد وصلت الرسالة أيضا إلي عرب1948, ولم يكن بد من سقوط الرهان القديم علي جيوش الدول العربية التي ستتحرك يوما لتحرير فلسطيني. وفي حقيقة الأمر فقد كان هذا الرهان مريحا لإسرائيل في المقام الأول,. فلقد أدي عمليا إلي انعزال هؤلاء العرب عن مجمل الحركة السياسية في إسرائيل, وهجرة من يضيقون منهم بهذا الانعزال إلي خارج الحدود. ولكن بعد أن حدث ما حدث لم يعد أمام هؤلاء العرب إلا محاولة الممارسة العملية لذلك الشعار القديم ـ والصحيح فيما نري ـ شعار الدولة الديمقراطية, دولة لكل مواطنيها, وهو الشعار الذي يمثل النقيض الحقيقي للصهيونية, والذي يمثل مأزقا حقيقيا لدولة إسرائيل التي تعلن تمسكها بالديموقراطية الغربية.
لعلنا نستطيع أن نخلص من ذلك أننا حيال أطراف خمسة قابلة للتصنيف إلي معسكرين وفقا لمعيارين متباينين:
أولا: وفقا لمعيار الانتماء القومي, وهو المعيار الذي ألفنا التعامل بمقتضاه في تناولنا للصراع العربي الإسرائيلي, نجد أنفسنا حيال معسكرين, أحدهما فلسطيني يضم مؤيدي ومعارضي عملية التسوية من الفلسطينيين, والمعسكر الآخر إسرائيلي يضم مؤيدي ومعارضي عملية التسوية من الإسرائيليين.
ثانيا:إذا مانظرنا إلي أطراف الصراع وفقا لموقفها من عملية التسوية, فسوف نجد أنفسنا حيال معسكرين جديدين. أحدهما يضم مؤيدي العملية من الإسرائيليين والفلسطينيين علي حد سواء, ويضم المعسكر الآخر معارضي تلك العملية بصرف النظر عن انتماءاتهم القومية.
ولنا أن نتساءل: تري أي التقسيمين أولي بالاتباع لتيسير فهمنا لمجريات الصراع العربي الاسرائيلي؟ هل من الأنسب النظر إلي الصراع باعتباره يدور بين المعسكر الفلسطيني والمعسكر الاسرائيلي؟ أم بين معسكر أنصار التسوية وأعداء التسوية؟
إن المفاضلة فيما نري ليست بهذه البساطة. فكلا التقسيمين مازالا يمارسان تأثيرهما في مجريات الصراع. ومن ثم فلابد من وضعهما معا في تحليلاتنا بحيث نستطيع أن نفسر بقدر أكبر من الدقة مايطرأ علي الصراع من تطورات. إننا لا نستطيع ببساطة أن نستبعد جانب الانتماء القومي, ليس لمجرد الالتزام بمنطلقاتنا القومية العربية فحسب, بل أيضا لأن إسقاط هذا الجانب يعوق فهمنا للعديد من مظاهر الصراع. كما أننا أيضا لا نستطيع ولنفس السبب أن نستبعد حقيقة الانقسام حول العملية السياسية الجارية داخل كل من المعسكرين القوميين*
المصدر: http://www.ahram.org.eg/archive/1998/10/28/FILE1.HTM