تخصص العديد من قنواتنا الإعلامية قدرا محسوبا من بثها المكتوب والمسموع والمرئى لإدانة مستحقة للإرهاب والإرهابيين؛ والدعوة إلى القضاء عليه وعليهم؛
ثم تخصص قدرا أكبر -خاصة فيما يعرف بالبرامج الحوارية- لإدانة واجبة للفساد والمطالبة بتصد حاسم للفاسدين؛ وتضيف إلى ذلك تسليط الضوء على وقائع خلل الأداء الحكومى وما يترتب عليه من تدهور الأحوال المعيشية للمواطنين واتساع رقعة الفقراء والمظلومين.
ورغم أننى ممن يؤمنون بضرورة النظر بالعينين معا وعدم الاقتصار على رؤية نصف الكوب الفارغ أو نصف الكوب المملوء؛ فإننى أعرف وأقدر أن للمال متمثلا فى الإعلانات ومصالح أصحاب تلك القنوات تأثيرا لا يقل عن تأثير رموز السلطة فى توجيه أدواتنا الإعلامية؛ حيث تكاد تتفرغ بعض القنوات للإشادة بجهود السلطات فى خدمة الجماهير ومكافحة الإرهاب والتماس الأعذار لها فى أى تقصير حتى لو كان تلافيه ممكنا.
رب من يتساءل محتجا: ألا يعيش هؤلاء الشباب الذين تتحدث عنهم فى واقع ملموس يكفل لهم تصديق أو تكذيب ما يلقى إليهم؟ والحقيقة إن أحدا منا مهما كانت قدراته واتسعت اهتماماته بالشأن العام، لا يستطيع أن يزعم أن لديه معرفة مباشرة بأحوال المواطنين جميعا فى أنحاء البلاد وعلى مر الأيام. ترى كم منا زار شخصيا السد العالى أو الدويقة أو القرية الذكية أو عزبة القرود؟ وكم من أبناء المحافظات رأى بعينيه ما يجرى فى العاصمة؟. قلة بالتأكيد الذين رأوا ذلك بشكل مباشر، و لكن غالبيتنا قد رأوا كل ذلك بل و أكثر منه عبر الصحف، و البرامج الحوارية التليفزيونية، التى قد لا تكذب أو تزيف و لكنها تنتقى ما تراه مهما من وجهة نظرها؛ وليس من شك فى أن استجابتنا لذلك الذى نراه ونسمعه ونقرأه تكون أقرب إلى السخط و الغضب والإحساس بأننا على أبواب كارثة عظمى لا مهرب منها.
ومن ناحية أخرى ترى كم منا تعرف شخصيا و بشكل مباشر على مركز غنيم لأمراض الكلى بالمنصورة؟ أو على مركز جراحات القلب المجانية الذى أقامه الدكتور مجدى يعقوب فى أسوان؟ أو شاهد الآلاف من طلاب جامعة القاهرة يحتشدون لمشاهدة حفل غنائي؟. إن غالبيتنا بطبيعة الحال لم تكن لهم مثل تلك الخبرة لا بشكل مباشر، ولا حتى عبر تغطية مكثفة عبر تلك البرامج الحوارية التليفزيونية تعادل أو تقترب مما تخصصه للحديث عن الفساد والسلبيات والمعاناة.
ولعل من يتأمل المشهد لن يغيب عن فطنته أن أولئك الذين يصرخون مدافعين عن فقراء مصر الذين تنهار المساكن على رءوسهم، ويشربون المياه مختلطة بالمجاري، وينامون فى الشوارع على أبواب المستشفيات انتظارا لدخولها حيث يواجهون الموت، ويشكون من البطالة والتهاب الأسعار إلى آخره؛هؤلاء الصارخون تقف وراءهم مجموعة من الأثرياء الطيبين من مصر و من دول الخليج من أصحاب الصحف و القنوات الفضائية الذين يؤجرونهم لتنويرنا بسوء أحوالنا، وأن يحجبوا عنا رؤية مستوى معيشتهم هم، وأن يحجبوا عنا أيضا رؤية نقاط الضوء التى قد تكون محدودة وذابلة. و لم تثر اهتمامهم تلك المؤشرات الرقمية الدولية و المحلية التى تشير إلى تحسن أحوال المصريين بدرجة ما عبر سنوات طوال على مستوى تحسن نوعية الحياة متمثلة مثلا فى ارتفاع متوسط أعمار المصريين، فضلا عن تزايد النسب المئوية لمالكى السيارات و الثلاجات و الشقق وتليفونات المحمول. ولا يعنى ذلك بطبيعة الحال أن الفجوة قد ضاقت بين فقراء مصر وأغنيائها، بل لعلها اتسعت، كما أنه لا يعنى مطلقا أن ما تحقق قد تحقق تفضلا تلقائيا من السلطة؛ فما تحقق عندنا وعند غيرنا لم يكن له أن يتحقق إلا عبر مسيرة طويلة شهدت الكثير من الإخفاقات ولكنها حققت قدرا من التقدم. ولا ينفى ذلك التحسن النسبى أنه كان بمقدورنا لو أحسنا إدارة مواردنا وقاومنا الفساد بشكل أكفأ أن نكون أفضل حالا بكثير.
و بطبيعة الحال فإن ما عرضنا له لا يشمل جميع مقدمى البرامج الحوارية، و لا كل أصحاب الأقلام ، فثمة قلة منهم تحرص على التوازن فيما يعرضونه بين السوءات والإيجابيات، و لكنهم فى النهاية الأقل عددا وربما الأدنى أجرا، وأيضا الأقل جماهيرية.
ترى لو تصورنا مواطنا شابا بسيطا يتنقل بين هذين النوعين من القنوات الإعلامية؛ فما طبيعة الرسالة التى تصل إليه فى النهاية؟: هل يصدق رسالة تقول له أن كل شيء على ما يرام متجاهلا واقعه الشخصى المعاش؛ أم أنه أقرب إلى تصديق رسالة تقول له «لا فائدة» فما تعانيه تعانيه الغالبية من أبناء هذا الوطن؟ وأن تكلفة الاحتجاج ومحاولة التغيير باهظة، وهاهى الشاشات تفيض بصور من يطلق عليهم المختفون قسرا والكلمات تتزاحم صارخة معبرة عما يعانونه من عذاب وتعذيب. ترى هل يبقى أمام هذا المواطن من سبل للإفلات من واقعه المؤلم سوى سبيلين لا ثالث لهما: أن يلقى بقيمه الأخلاقية خلف ظهره وينضم لجموع الفاسدين فيشترى الدنيا بالآخرة، أو أن يبحث عن سبيل يكفل له قدرا من نعيم الدنيا ويضمن له فى نفس الوقت الجنة ونعيمها، وليس غير داعش وأخواتها الذين يكفلون له ذلك.
ترى هل يدرك القائمون على قنواتنا المصرية أنهم يقومون – دون قصد غالبا- بدفع شبابنا نحو الاختيار بين الفساد والجماعات الإرهابية؟