كثيرا ما تعلو هذه الأيام نغمة الحديث عن ضرورة الوحدة الوطنية ومخاطر الفتن الطائفية على وجود الدولة والوطن؛
وقد صدرت فى مطلع مارس الحالى فى نهاية «مؤتمر الحريَّة والمواطَنة التنوُّع والتكامُل» وثيقة تحمل اسم «إعلان الأزهر» أشارت مقدمتها بوضوح إلى أنها تصدر «انطِلاقًا من الإرادةِ الإسلاميَّةِ – 0المسيحيَّةِ المُصمِّمةِ على العَيْشِ المشترَك» و أن «الأزهر ومجلس حكماء المسلمين ومسيحيِّى الشرق يَلتَقُون اليومَ من جديدٍ على الإيمان بالمساواة بين المسلمين والمسيحيين فى الأوطان والحقوق والواجبات، باعتبارهم أُمَّة واحدة، للمسلمين دِينُهم، وللمسيحيين دِينُهم»
ورغم أن الوثيقة تحمل اسم «إعلان الأزهر» فإنها لا تعبر عن رأى الأزهر وحده؛ بل تعبر عن موقف ممثلى مختلف المذاهب الإسلامية والمسيحية الذين اعتلوا منصة المؤتمر ولهم تنتسب هذه الوثيقة، وهى بذلك تختلف عن بقية الوثائق التى صدرت عن الأزهر تحمل توقيعات عدد من المثقفين المصريين بصفتهم الشخصية. وتبقى المهمة الأهم، وهى تفعيل تلك الوثيقة التاريخية.
تتجه غالبية الأنظار عادة إلى السلطة مطالبة إياها بالحفاظ على الوحدة الوطنية والحرص على المواطنة؛ وليس من شك فى مسئولية الدولة عن التصدى بالسلاح لمن يرفعون السلاح فى مواجهة الوطن؛ وليس من شك كذلك فى أن الدولة مطالبة بضمان خضوع المواطنين جميعا للقانون دون تمييز؛ وليس من شك أيضا فى أن الدولة مطالبة بتنقية القوانين من النصوص التى تحمل تمييزا بين الجماعات التى تشكل النسيج الوطني؛ ونستطيع أن نمضى لتعداد مسئوليات السلطة فى هذا الصدد. ولكن يبقى سؤال ملح: ترى لو تصورنا فرضا أن السلطة أوفت بمسئولياتها كاملة فى هذا الصدد هل يعنى ذلك اختفاء التمييز فعلا؟.
أخشى أن أقول إننا بذلك نتجاهل جذورا أعمق لتمييز أخطر نستطيع أن نطلق عليه تجاوزا «التمييز الشعبى الطائفي» وهو نوع من التمييز لا يقع تحت طائلة القانون ولا يسيل دماء ولا يحطم ممتلكات بل قد لا يمارس رفضا صارخا مكتفيا بالهمسات والإيماءات؛ ولكنه ينخر فى أساس المواطنة مهددا وجود تلك «الدولة الوطنيَّة الدستوريَّة القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وحُكم القانون» وفقا لنص إعلان الأزهر، متخفيا فى ثوب ممارسة الحرية الشخصية مخفيا جوهره التمييزى الذى كثيرا ما يختلط بالمصالح الاقتصادية. نقصد بالتمييز «الشعبى الطائفي» ميل قطاع من الجماهير إلى محاولة التضييق على أبناء جماعة من جماعات الوطن بحيث لا تتمكن من الحصول على نصيبها من الوظائف والترقى والمساكن وإقامة المؤسسات الدينية وفرص التعليم؛ دون أن يحمل ذلك شبهة تجاوز القانون، بل يبدو الأمر فى الأغلب الأعم كما لو كان اختيارا شخصيا حرا ملتزما بالنصوص القانونية.
أمثلة ونماذج ذلك التمييز الشعبى تفوق الحصر. من الذى يجبر طفلا على اللعب مع طفل ينتمى لجماعة مختلفة عن جماعته؟ من الذى يجبر صاحب بناية مثلا على تأجير شقق بنايته دون تمييز؟ من الذى يجبر صاحب مؤسسة خاصة على تعيين العمال والموظفين فى مؤسسته اعتمادا على الجدارة وحدها ودون تمييز؟ و لو كان الإجبار ممكنا بشكل أو بآخر ترى هل سيكون المجبر على «التعايش» مطمئنا؟ وحتى فى إطار الوظائف الحكومية، ومع تزايد الخبرة والمهارة المصرية فى تطويع القوانين واللوائح والالتفاف حولها دون التصادم معها؛ من الذى يجبر صاحب القرار فى شغل تلك الوظائف على الالتزام بالكفاءة وحدها دون تمييز؟ إلى آخر قائمة طويلة من النماذج و الأمثلة.
إن التمييز الشعبى الطائفى يستند إلى شبكة واسعة ومعقدة من التقاليد والعادات وأساليب التربية امتدت ورسخت عبر سنوات طوال وأصبح يمتلك ترسانة من أسلحة الضغط والعقاب المعنوى لمن يتمردون عليه حتى لو احتمى المتمردون بقرارات السلطة الرسمية. إن القرارات والقوانين واللوائح الرسمية مهما يكن وضوحها ومهما تكن شرعيتها لا تكفل تلقائيا الانصياع الجماهيرى الكامل لها. ولعل مثال المقاطعة الشعبية لإسرائيل – والقياس مع الفارق – يعد نموذجا واضحا لما نقصده.
إن مواجهة «التمييز الشعبى الطائفي» باعتباره التهديد الأخطر للمواطنة؛ ليست مواجهة مستحيلة، ولكنها تتطلب إستراتيجية هادئة طويلة المدى قد تكون بدايتها ترسيخ فكرة «عدوك عدو وطنك» دون ملحقات تجعل الوطن جزءا من كل أكبر، ودون خلط بين مساندة واجبة للصديق الشقيق وذوبان يمحو حدود الوطن، ودون نظر للهوية الدينية أو الفكرية لذلك العدو. و رغم أن تلك المهمة قد تبدو للوهلة الأولى مهمة هينة؛ إلا أننا قد ندرك صعوبتها إذا وضعنا فى الاعتبار أنها تتصادم مع كل انتماءات عابرة لحدود الوطن، سواء كانت إسلامية سنية أو شيعية تتحدث عن أن دولتنا «الوطنيَّة الدستوريَّة القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وحُكم القانون» جزء من العالم الإسلامى مما قد يبرر لدى البعض بالمقابل مشروعية انتماء جانب من المواطنين للعالم المسيحي؛ بحيث يصبح مقبولا أن يستصرخ فريق من المواطنين العالم المسيحى لنجدتهم من ظلم يتعرضون له؛ وأن نهب باعتبارنا مسلمين لنجدة إخوتنا فى الدين إذا ما تعرضوا لظلم أو اضطهاد؛ بدلا من أن نقف جميعا كمواطنين مصريين لدفع الظلم عن المظلومين دون نظر إلى هويتهم. فلنرفع جميعا باستمرار وبدون ملل شعار «عدوك عدو وطنك» ليكون نبراسا هاديا فى مقرراتنا الدراسية ورسائلنا الإعلامية وأساليب تنشئتنا لأطفالنا، ولعلنا بذلك نكون قد بدأنا فى تحويل إعلان الأزهر إلى برنامج عمل وطني.