وقعت للمرة الأولى على تعبير «الأهداف الهيكلية» خلال متابعتى ما نشر عن قضية جاسوسية شهيرة. كانت قواتنا المسلحة تقيم هياكل تشبه الطائرات ليختلط الأمر على العدو فيوجه نيرانه إليها بعيدا عن الطائرات الحقيقية؛ وكانت مهمة الجاسوس أن يبعث إلى العدو بخرائط تبين ما هو حقيقي، وما هو هيكلى من تلك الأهداف.
وتذكرت أيضا ملحة نرددها أحيانا على سبيل الفكاهة تتحدث عن شخص وقف فى الشارع تحت عامود نور يبحث عن شيء مفقود وحين سئل عما يبحث عنه أجاب بأنه يبحث عن مفتاح شقته الذى وقع منه وهو يحاول فتح الباب وعندما سئل ولماذا تبحث عنه هنا أجاب لأنه وقع فى مكان مظلم لا يمكن البحث فيه. كنا نضحك آنذاك ولم نكن ندرك أننا كثيرا ما نمارس تلك اللعبة. تذكرت كل ذلك خلال متابعتى لتلك الجهود الحثيثة المخلصة التى تبذلها نخبة من خيرة مثقفينا الوطنيين بهدف اجتثاث الجذور الفكرية للإرهاب؛ ولا شك أن تقصى تلك الجذور يحتاج جهدا علميا أكاديميا وميدانيا دءوبا، فضلا عن أن عملية تحجيمها ولا أقول اجتثاثها تحتاج تضافر الجهود و استمرارها دون كلل.
يواجه الأزهر فى الفترة الأخيرة موجات متتالية من الانتقادات؛ ومن المفهوم أن توجه تلك الانتقادات من المتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين، فلديهم المبرر القوى لعدم نسيان وقوف فضيلة شيخ الأزهر فى صدارة تلك الصورة التاريخية لمشهد 30 يونيو. و ذلك بصرف النظر عن اختلاف الآراء – بل وتحفظى الشخصى – بشأن مشاركة الرموز الدينية فى العمل السياسي. ومن المنطقى أن تصدر تلك الانتقادات وأقسى منها عن داعش التى نشرت فى مارس 2017 فى العدد الأخير من دوريتها الإلكترونية المسماة «رومية» والتى تصدر بسبع لغات: الإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية والتركية والباشتو والأويغور، ، صورة لشيخ الأزهر يحتضن بابا روما تحت عنوان «وقاتلوا أئمة الكفر» واصفة كليهما بأئمة الكفر.
ليس لأحد أن يزعم أن إنسانا مهما ما كان منصبه يمكن أن يعلو على النقد بما فيهم الأزهر ومؤسساته ورجاله، ورحم الله من قال «اللهم اجز عنا خيرا من أهدى لنا أخطاءنا»؛ ولا أظن أن أحدا يمكن أن يتصور أن يكون التعليم الأزهرى فى خير حال وسط مناخ يشكو فيه الجميع من تدهور أحوال التعليم عامة فى بلادنا، و لا أحسب أن يتوقع أحد أن يكون الأزهر استثناء بين المؤسسات الدينية جميعا فيتخلى عما يميزها من طابع محافظ ليصبح وحده مؤسسة علمانية التوجه تقدمية الطابع، ولعلنا نسلم جميعا بضرورة مراجعة ما يتلقاه أبناؤنا فى المؤسسات التعليمية جميعا، ومن بينها بطبيعة الحال المؤسسات التعليمية الدينية الإسلامية والمسيحية، فى إطار أن مناهجنا التعليمية جميعا قد أسهمت فى تشكيل ما نعانيه من تخلف فكرى يبدو مظاهره للعين المجردة تفوق الحصر من إيمان بالخرافات الطبية، ودعوات غير محسوبة للفصل بين الإناث والذكور، ودفاع محموم عن ممارسة الختان، وتحريم متشنج للموسيقى والغناء وغيرها من الفنون، إلى آخره. ولعل الفارق غنى عن البيان بين التخلف عن العصر و ممارسة الإرهاب. قد نعتبر كل إرهابى متخلفا فكريا، ولكن ليس صحيحا أن كل متخلف فكرى إرهابى بالضرورة. ولذلك فليس ثمة ما يبرر علميا السعى لإلصاق تهمة «إفراز الإرهابيين» بالأزهر ورجاله ومؤسساته؛ رغم أن الدراسات العلمية الميدانية المنضبطة تشير إلى أن النسبة العددية للأزهريين بين من أدانتهم الدولة بتهمة الإرهاب نسبة لا تكاد تذكر.
ولعل تأمل الانتقادات التى يسوقها هؤلاء الأصدقاء يثير الدهشة ويستوقف النظر، المتوقع من دعاة التقدم والحداثة السعى ما وسعهم الجهد للحد من إمكانية أن يحكم إنسان كائنا من كان بتكفير آخر؛ والسعى بالتالى ما وسعهم الجهد لتركيز الضوء على أى تصريح أو تلميح يصدر عن شيخ الأزهر، أو عن أى من المنتمين للأزهر يقترب من تلك الأهداف.
وعلى سبيل المثال فحين صرح فضيلة الإمام الأكبر يقرر فيه صراحة ألا عقوبة دنيوية يفرضها الإسلام على المرتد باعتباره كافرا؛ نجد الصيحات تتعالى من هؤلاء الأصدقاء بأن هذا التصريح ما هو إلا مجاملة لقداسة بابا روما متجاهلين أنهم بذلك يتفقون تماما مع إدانة داعش بل تكفيرها لكل من القامتين الدينيتين الأزهرية والكاثوليكية.
وعلى سبيل المثال أيضا فإن هؤلاء الأصدقاء الوطنيين التنويريين يدينون إحجام الأزهر عن تكفير داعش متجاهلين أنهم بذلك يرسخون مفهوم الدولة الدينية بتأكيد حق المؤسسة الدينية فى التكفير؛ وحقها فى التأويل أى تحديد مواصفات الكافر؛ ومن ثم حقها فى التشريع. ترى ماذا يبقى من الدولة المدنية بعد ذلك.
ترى هل من سبيل لتفسير هذا الموقف المتناقض؟ ترى هل يعز على هؤلاء الأصدقاء، والعديد منهم من نوابغ الأطباء والمهندسين، التسليم بما تؤكده الإحصاءات الموضوعية من غلبة نسبة أبنائنا من خريجى الكليات العلمية بين قادة الإرهاب؟ هل لديهم من تفسير آخر لتلك الإحصاءات؟ هل لديهم إحصاءات مقابلة؟ هل غاب عنهم ذلك الفارق العلمى بين التخلف و الإرهاب؟ بل بين التعصب و الإرهاب؟ هل غاب عنهم أن تلك التفرقة العلمية الواجبة لا تعنى بحال دفاعا عن التخلف أو التعصب؟ وليس من تفسير لدى سوى أنهم اختاروا الهدف السهل المرئى المتجسد فى مؤسسة الأزهر موجهين إليه سهامهم متغافلين أنهم يصرفون طاقتهم فى الهجوم على هدف هيكلي.