تفيض أمثالنا الشعبية وأغانينا بالعديد من التعبيرات التى تربط النور بالخير والجمال: الله ينور عليك، إنت نورتنا، الله ينور طريقك إلى آخره.
ولكن ذلك لا يعنى من الناحية العلمية أننا جميعا قادرون على الاستمتاع بالضوء حتى لو تمتعنا بنعمة البصر. فثمة من يعانون مما يعرف بمتلازمة أيرلين Irlene syndrome التى اكتشفتها الاخصائية النفسية الأمريكية هيلين ايرلين عام 1983 وتعنى نوعا من الخلل الوظيفى يعوق قدرة الفرد على القراءة فى الضوء الساطع، ويعرف أطباء العيون ما يطلقون عليه فوبيا الضوء photophobia هو انزعاج العين عند رؤية ضوء ساطع بحيث يمكن تقليل الانزعاج من الحساسية للضوء من خلال تجنب أشعة الشمس، إغلاق العين، وارتداء النظارات الداكنة، و تعتيم الغرفة.
ومن المثير للانتباه أن مثل تلك الظواهر المرضية تتحول إلى سلوك اجتماعى نستطيع أن نطلق عليه على سبيل التشبيه متلازمة التشاؤم. والأمر الجدير بالانتباه أن أصحاب متلازمة التشاؤم يختارون تشاؤمهم بإرادتهم ويحرصون على استمراره غاية الحرص؛ فالتشاؤم يرفع عن كاهلهم عبء المحاولة ومعاناة تحمل مسئولية الفشل الذى يرونه حتميا؛ ومن ثم يحرصون على إسدال الستائر الكثيفة التى تحول دون تسلل أى بصيص ضوء مهما يكن ذابلا؛ مخافة أن يحمل شعاع أمل خافت يثير لديهم إزعاجا مرعبا يدفعهم للتصدى بشراسة لمصدر الضوء ولا يهدأ لهم بال إلا بضمان سيادة الظلام الدامس.
استدعت تلك الفكرة إلى ذاكرتى واقعة شهدها معسكر تعذيب أوردى أبو زعبل. أذكر واحدا من الزملاء الذين كانوا يعملون بمهنة التعليم. كان فنانا مرهفا، أميل للتفاؤل؛ لكنه كان يبحث عمن يؤكد له صحة تفاؤله و توقعه بأن الغمة لا بد منتهية، وكنت أراه أياما يستلقى إلى جوارى بعد إغلاق الأبواب مرتاحا هادئا، و فى ليال أخرى أراه حزينا مكتئبا متشائما؛ و اتضح لى أنه فى ليالى تفاؤله و سكينته يكون قد التقى زميلا متفائلا نقل إليه أن ما نمر به هو ما يطلق عليه بلغة السجون «تكديرة»؛ وأن تماسكنا ومحاولة الصمود والمقاومة السلبية المحدودة يمكن أن يقصر من مدة التعذيب؛ فيعود صاحبنا ليقضى ليلته متفائلا بإمكانية انقشاع الغمة؛ أما فى ليالى الحزن والاكتئاب فقد كان صاحبنا يلتقى زميلا شديد التشاؤم يؤكد له عبثية المقاومة و أنه لا نهاية للتعذيب إلا حين يقرر النظام الفاشى الحاكم التخلص منا بالقتل الجماعي، فيعود صاحبنا و قد ملأه الغم موقنا أن نهايته وشيكة.
كانت تلك الأحاديث الليلية الهامسة المتشائمة ترهقنى كثيرا، فالتشاؤم يشبه الأمراض المعدية. وأتيحت لى فرصة لقاء الزميلين «المتشائم» و«المتفائل» لأدير حوارا هامسا بينهما. ونجح «المتشائم» فى إفحام «المتفائل» و تفنيد حججه، مما دفع بالأخير إلى القول بأنه حتى إذا كانت النهاية مأساوية وأنه لا سبيل لتلافيها، فما الذى يمنع من إتاحة الفرصة لزميل بائس أن يتعلق بأذيال الأمل ليقضى ليلة هادئة.
لقد شغلنى طويلا ومازال موضوع العلاقة بين التشاؤم والثورية: ترى هل صحيح أن المتفائل لا تقلقه السلبيات، وبالتالى ينصرف عن محاولة التغيير مستسلما لواقع مؤلم يراه ورديا؟ و هل صحيح أن التغيير الثورى الحقيقى لا يمكن أن يصدر إلا عن جماعة مغرقة التشاؤم لا ترى إلا ما هو سلبي؟ التفاؤل فى حقيقة الأمر شيء بعيد تماما عن الرضا بالواقع، إنه يعنى اليقين بأن التغيير للأفضل ممكن وسيظل ممكنا، وأن الواقع الراهن مهما بدا مظلما فثمة نقاط مضيئة علينا أن نبحث عنها وننميها، وأن الثمن المطلوب للتغيير مهما بدا مؤلما فإنه يهون بقدر إيجابية المستقبل المستهدف. يصدق ذلك على المستوى الفردى كما يصدق على المستوى السياسي. إن أخطر ما يمكن أن يهدد العمل السياسى هو تسلل عبارة «مفيش فايدة». و لنأخذ نموذجا من بعض ما يجرى حولنا.
لقد ساد التشاؤم والظلام بلادنا بعد نكبة 1948، ورأى الفلسطينيون بعيونهم العدوان الصهيونى يلتهم أرضهم الفلسطينية، و لكن لم تلبث أن ظهرت مجموعة متفائلة من الشبان الفلسطينيين على رأسهم أبو عمار لم يتملكهم اليأس والتشاؤم و أيقنوا أن القضاء على الظلم ممكن، فكانت البداية المتواضعة لعمليات فتح الفدائية مع نهاية آخر ليالى ديسمبر عام 1964 وبزوغ فجر الأول من يناير 1965. وجاءت هزيمة يونيو 1967. ومع الهزيمة امتد العدوان الصهيونى ليلتهم ضمن ما التهم ما تبقى من فلسطين، و انتشرت النكات تسخر من كل شيء وارتفعت الشعارات المتشائمة تروج لفكرة ألا فائدة ترجى من أى شيء، ولكن لم يهتز تفاؤل المقاومين الفلسطينيين بل ازداد تفاؤلهم وازداد يقينهم بحقيقة أن للظلم نهاية لا بد وأن يصنعها المظلومون، فكانت معركة الكرامة مارس 1968 وتوالت الأحداث ومازالت. إنه صراع مستمر بين ثقافة المقاومة و ثقافة الاستسلام. هكذا كان شأننا فى مصر أيضا لم نستسلم للتشاؤم إلى أن صنعنا النصر عام 1973. وهكذا كان وسيظل شأن الشعوب عبر التاريخ.