المسيحيون المصريون حماة وحدة الوطن

تتردد فى خطابنا السياسى الراهن الدعوة إلى ضرورة إصلاح أو تصويب أو تجديد الخطاب الديني؛ وكثيرا ما نلحق بهذه الدعوة استدراكا مؤداه أن ذلك الإصلاح المنشود لا ينبغى له أن يطول «الثوابت»؛ وسرعان ما يوافق الجميع على ذلك حرصا على التوافق دون تدبر مستحق للمقصود بتلك الثوابت التى دار ومازال يدور حول تحديدها جدل صاخب وعادة ما ينقطع الجدل فى بلادنا بغتة ويظل التحديد القاطع غائما بدعوى الحرص على وحدة الكلمة.

ومثل ذلك الجدل الصاخب شهدت مثله العديد من الدعوات الفكرية العقائدية مهما كان بعدها أو حتى تعارضها مع الدين. لقد عرفت الجماعات الأصولية جميعا قانون «لا تصويت على المبادئ» بمعنى أن ليس للجماعة أن تختار ديمقراطيا التفسير الصحيح لتلك المبادئ باعتباره من اختصاص مجموعة محددة هى التى تعرف دون غيرها المقصود بذلك التعبير ولها وحدها أن تقرر من الملتزم بتلك المبادئ و من الخارج عليها لتقصيه وزمرته خارج الجماعة. و قد تنوعت أسماء تلك المجموعات عبر التاريخ فكانت اللجنة المركزية أو مكتب الإرشاد أو المكتب السياسى للحزب أو هيئة كبار العلماء أو تتمثل فى فرد واحد يقوم بتلك المهمة كاملة هو مفتى السلطنة أو آية الله العظمى إلى آخره. و يجمع بين هؤلاء جميعا التسليم بأن تفسير النظرية أو العقيدة أمر لا يقدر عليه العامة باعتباره أمرا متخصصا.

وقد شهد التاريخ مصادمات بلغت حد القتل والاقتتال حول تحديد المقصود بالمبادئ أو الثوابت؛ ونتج عن تلك المصادمات ما يعرفه الجميع من انشقاق الجماعة العقائدية إلى جماعات متصارعة، وكل جماعة على يقين أنها المتمسكة بالمبادئ الصحيحة.

إن إشارتنا إلى أن ظاهرة احتكار تفسير النص وما ترتب عليه قد تكررت عبر التاريخ و أنها لم تكن مقصورة على الخطاب الدينى بل شملت الخطابات الأصولية جميعها؛ لا يعنى بحال أنها قانون أزلى لا نملك إلا قبوله والاستسلام له، ولا تعنى أيضا تجاهل هوية من يمارسون الإرهاب الأصولى حاليا فى بلادنا.

إنهم يمارسون الإرهاب تحت رايات وأفكار إسلامية ويعلنون أنهم إنما يمارسونه لإعلاء كلمة الإسلام، و من ثم لم يعد ملائما بعد كل تلك الدماء التى سالت والأرواح التى أزهقت و الكنائس التى أحرقت، الاكتفاء بالقول إنه لم توجد عبر التاريخ جماعة دينية خلت من التعصب، وأن التعصب لا يقتصر علينا نحن المسلمين وحدنا، بل هناك مسيحيون متعصبون.

إن كلمات العزاء مهما كان صدقها لم تعد كافية وحدها؛ ولم يعد كافيا ترديد وقائع حقيقية تؤكد صداقات شخصية تاريخية ممتدة بين مسيحيين و مسلمين يضمهم الوطن، ولم يعد كافيا تأكيد أن رصاصات الإرهاب تصيب مصريين من المسيحيين والمسلمين، فرغم أنها الحقيقة فهى ليست كل الحقيقة؛ فالإرهابيون يعلنون بالصوت والصورة والممارسة أنهم يستهدفون فئتين محددتين: العسكريون باعتبارهم جنود الطاغوت، والمسيحيون باعتبارهم كفارا.صحيح أن لدينا خطابا يؤكد أن إسلامنا وسطى متسامح؛ و لكن هناك خطابا آخر يعلن أن جوهر الإسلام قتال غير المسلمين وإذلالهم.

ولعله لا يخفى على أحد حقيقة أن الإرهابيين الأصوليين لا يستهدفون فحسب إحراق كنيسة هنا أو هناك، فالهدف فيما أتصور هو إشعال المزيد من الغضب فى صدور المسيحيين المصريين حين يشهدون قبل غيرهم أجساد إخوتهم وأبنائهم وذويهم تتطاير مخضبة بالدماء. إن أولئك المسيحيين لا يواجهون نيران الإرهابيين فحسب، بل يواجهون أيضا العديد من مظاهر التمييز الرسمى والقانونى والشعبى حيالهم؛ كل ذلك فى ظل أصوات مسيحية صاخبة عابرة للمحيط تزايد وتتطاول على الكنيسة و على قداسة البابا شخصيا متهمة قداسته بالخنوع والتخاذل، ولا يجدون حرجا البتة فى المطالبة بالتدخل الدولي.

لقد رددنا طويلا وبحق أن دعاة الفتنة لا يستهدفون مجرد استفزاز المسيحيين وإثارة غضبهم بل يستهدفون تقسيم الوطن؛ و الأوطان كما نعرف لا يمكن تقسيمها إلا بعد إشعال حرب أهلية داخلية لا تخبو نيرانها إلا بالتقسيم أو الإبادة أو التهجير بشكل جماعي؛ ودعونا نصارح أنفسنا بحقيقة أن من يمارسون ذلك الإرهاب الأصولى يستندون إلى ترسانة فكرية وإعلامية و مالية ضخمة؛ ويصبح السؤال: لماذا لم ننجرف حتى الآن فى حرب أهلية مفتوحة رغم كل ما بذل من جهد و ما أنفق من أموال و ما نسمعه من صراخ يدعو للتفرقة والتمييز.

لقد أحرز الإرهابيون قدرا لا يمكن تجاهله من اجتذاب تعاطف جماهيرى فى صفوف بعض قطاعات الجمهور المسلم فى بلادنا؛ ولكنهم لم ينجحوا حتى الآن فى تحويل الغضب المسيحى إلى عنف تكتمل معه حلقة الحرب الأهلية؛ خاصة أن جميعنا يعرف أن ثمة ترسانة فكرية وإعلامية ومالية جاهزة دوليا لمساندة ذلك العنف المسيحي.

إن ما يحول دون اشتعال حرب أهلية فى بلادنا يستند فى المقام الأول لذلك الإحساس العميق بالوطنية المصرية لدى جموع المسيحيين المصريين؛ ويبقى أن تقدم الدولة المصرية بنفسها و بشجاعة ودون تردد على التخلص من كل مظاهر التمييز الديني.

قد يحتاج الأمر إلى إجراءات مؤلمة لابد منها، و سوف تواجه قطعا بمن يصورها تجاوزا لخطوط حمراء وهمية، رغم أن ثمة إجراءات بدت أشد خطورة أقدمت عليها السلطة وفوجئت بتقبل وتفهم جموع المصريين لها .

خلاصة القول

التحية واجبة فى هذا المقام لصمود جموع المسيحيين المصريين لرصاصات الإرهابيين و تهجماتهم الفكرية؛ والتحية واجبة لرجال القوات المسلحة والشرطة لبسالتهم فى التصدى للإرهاب و الإرهابيين؛ و المجد والخلود لشهداء الوطن.

 

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/590373.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *