إن إحاطة القائد لنفسه بالعديد من المستشارين واللجان الاستشارية أمر إيجابى يرتبط بالحداثة والتقدم؛ ولذلك ينبغى أن ينتابنا الفزع حين نرصد فى بلادنا تنامى الميل إلى الفتوى دون تخصص أو حتى علم بالموضوع المطروح، حتى أصبح المرء يأنف من التصريح بأنه ليس من أهل الاختصاص فى موضوع معين، و صرنا ننبهر انبهارا لا حد له إذا ما أقدم متخصص فى الجيولوجيا مثلا على الفتوى فى شأن ديني، أو متخصص فى العلوم الدينية على الخوض فى قوانين علم الفيزياء، بل و وصل الأمر بالبعض إلى حد الدهشة و الاستغراب إذا ما توجهوا بسؤال إلى من يحسبونه متخصصا فيعتذر لهم بأنه غير ملم بمستحدثات الموضوع أو انه فى حاجة لفسحة من الوقت لإعداد إجابته، فيعتبرون إجابته نوعا من التملص من إبداء وجهة نظره فى الموضوع.
لقد كان موضوع “أنماط القادة و أساليب القيادة” ضمن الدروس الأولى التى تلقيناها عن أساتذتنا فى علم النفس الاجتماعي. و كان على رأس الأنماط السلبية للقادة “القائد الملهم” الذى لا يعتمد فى اتخاذه قراراته إلا على بصيرته الثاقبة و ذكائه الفذ ومعرفته الشاملة.
لقد تغير العالم و تشابكت مشاكله و لم يعد فى مقدور قائد كائنا ما كانت عبقريته أن يزعم أنه قد أحاط بكل شيء علما؛ بل إن العبقرية الفردية لم تعد العلامة المميزة لمن يحصلون على جوائز نوبل فى الفيزياء مثلا، و يكفى المقارنة بين فريق الباحثين الذين أشاد زويل بمساهمتهم فى تحقيق إنجازه العلمي، و اينشتاين الذى حصل على نفس الجائزة نتيجة جهد فردى و إن كان البعض قد أصبحوا يشككون فى مدى فردية هذا الجهد.
لقد انتهى عصر ذلك العبقرى الذى يفكر وحيدا و ينجز منفردا ليحظى وحده بالمجد كله، و أصبح قادة العالم يتفاخرون و لو على سبيل الادعاء باعتمادهم على فرق تضم العديد من “المستشارين” فى مختلف مناحى المعرفة التى يتطلبها ترشيد قراراتهم. لقد اختفت عبارة قصص ألف ليلة “دبرنى يا وزير” ليحل محلها “على أهل الاختصاص تزويدى بالبدائل”.
أذكر أن أول دروس تلقيتها فى علم النفس العام كانت على يد العالم الجليل أستاذنا الراحل يوسف مراد. فى بداية إحدى محاضراته رفعت يدى لأسأله عن أمر يتصل بمحاضرته السابقة، فصمت قليلا ثم طلب منى إعادة السؤال، و أمسك بقلمه وسجل السؤال فى ورقة أمامه ثم سألنى عن اسمى و كتبه قرين السؤال و قال لى سوف أرد على سؤالك فى المحاضرة القادمة، وبدأ محاضرته. بدا لى الأمر غريبا. لقد ألفت خلال دراستى فى المرحلة الثانوية أن أجد الإجابة الفورية عند المدرس، فما بال هذا الأستاذ يطلب مهلة للإجابة عن سؤال عارض لتلميذ ما زال يحبو على طريق علم النفس. واستهل الدكتور مراد محاضرته التالية بأن نادانى فوقفت لأسمع منه الإجابة عن سؤالى البسيط بعد إشارة منه إلى المصدر الذى رجع إليه. و تعلمت أن رجل العلم الحق هو من يسلم بأنه لا يعرف كل شيء، و لا يجد غضاضة فى قولة “لا أعرف”.
و رسخ لدى الدرس حين قرأت فى أسس المنهج العلمي، و تاريخ تطور العلوم، لأكتشف أن أولى قواعد العلم هى التعرف على مناطق الجهل و «أن المرء يظل عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علمه اكتمل فقد جهل»، و أن أولى خطوات البحث العلمى الصحيح هى بلورة سؤال لا نعرف الإجابة عنه.
لقد انحسرت فى عالم اليوم صورة الحاكم الفقيه الفيلسوف الحكيم الأديب و لم يعد لها وجود عند من هم أكثر حضارة و تقدما، و بقيت تلك الصورة البالية تتمسك بالحياة حيث الجهل و التخلف. الحاكم العصرى هو ذلك المحاط بالعديد من المستشارين الذين تتعدد تخصصاتهم. و كذلك الحال فى مجال المشتغلين بالعلم، فلم نعد نرى فى العالم المتقدم من يجرؤ على الزعم بأنه يعرف كل شيء حتى فى مجال علمه المتخصص أو الذى يبدو له متخصصا. لقد اختفت أو كادت صورة العالم أو المكتشف العبقرى الملهم الذى ينجز اكتشافه العلمى من ألفه إلى يائه منفردا دون اعتماد على أحد.
لقد أصبحنا نشهد فى عالم اليوم ما يمكن أن نطلق عليه و بحق «مؤسسات صناعة الأفكار»، وهى صناعة بكل معنى الكلمة. صناعة لها مؤسساتها وينحصر مجال عملها الأساسى و الوحيد فى إنتاج الأفكار وصياغة البدائل. قد تتعدد مسميات تلك المؤسسات بين مراكز البحوث الاستراتيجية، أو بنوك التفكير، أو مراكز دراسات الرأى العام، أو مراكز البحوث المستقبلية، و لكنها تبقى فى النهاية من أبرز الأشكال المعاصرة للصناعات الأساسية الثقيلة: صناعة الأفكار. و أصبحت تلك المؤسسات تتجاوز الآلاف فى عالم اليوم.
و تكاد تلك الصناعة تحتل ذيل قائمة الاهتمامات فى بلادنا، سواء من حيث ندرة مؤسساتها، أو من حيث انكماش سوقها بمعنى قلة الطلب عليها، حيث ما زلنا فيما يبدو أسرى مقولة إن التفكير عملية تلقائية ذاتية، وأن النمط الأمثل للقيادة هو ذلك القائد العبقرى الذى لا يحتاج للاعتماد على مثل تلك الصناعة، صناعة التفكير.
ويظل التساؤل قائما: ترى هل يمكن أن تشهد بلادنا طلبا حقيقيا على منتجات هذا النوع من التفكير الجماعى العلمي؟ و هل آن الأوان لمراكز البحث العلمى فى بلادنا أن تنطلق فى هذا الاتجاه؟