المعوقات النفسية للحوار

المحاضرة السنوية للأستاذ الدكتور أحمد عكاشة 12 يونيو 2014
المعوقات النفسية للحوار
قدري حفني
السيدات و السادة
الحوار تعبير شائع عما يطلق عليه علميا تعبير الاتصال، و المعوقات تعبير لا يستخدم إلا إذا كنا نتحدث عن أمر ما يحول دون استمرار مسار طبيعي مرغوب. نتحدث مثلا عن معوقات التنمية و عن معوقات تدفق الدم و عن معوقات الكلام و عن معوقات الحركة إلي آخره؛ و لا نتحدث عن معوقات الجريمة أو القتل أو الفقر. الأصل إذن هو الحوار. و نقيض الحوار قد يكون صمتا و انكفاء علي الذات أو عنفا و تدميرا للآخر.


الحوار حاجة إنسانية قبل أن يكون ضرورة اجتماعيه. وتؤكد تجارب علم النفس، فضلا عن الخبرة الإنسانية العامة، أن إغلاق منافذ الحوار يؤدى بالفرد إلى معاناة نفسية – بل وبدنية – قاسية. وتؤدى تلك الحالة إذا ما استمرت إلى انهيار نفسي كامل يتحول معه الإنسان إلى كائن رخو فاقد تماما لجهاز مناعته النفسية إذا ما صح ذلك التعبير. ولو تركنا علماء النفس وتجاربهم جانبا ، ونظرنا في أنفسنا ، وإلى البشر من حولنا ، لوجدنا الصورة أكثر وضوحا• فالمرء مهما كانت انطوائيته ، ومهما كان عزوفه عن البشر، لابد وأن يضيق بوحدته بعد فترة تطول أو تقصر. ولابد وأن يبحث لنفسه عن”آخر” يأنس إليه و يأتنس به، ويتفاعل معه، ولا بأس بعد ذلك من عودته إلى قوقعته من جديد.
و حتى في بعض حالات المرض العقلي المتطرفة –و أنتم الأعلم بها-حين يتعذر على “المريض” ممارسة حوار متكافئ مع الآخرين، فإنه يصطنع لنفسه عالما وهميا منهم، يحادثهم و يستمع وحده إلي حديثهم، و يقيم معهم من الحوارات ما يبدو لنا غريبا شاذا.
خلاصة القول إذن أن الحاجة إلى الحوار حاجة إنسانية، شأنها شأن الحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وما إلى ذلك من حاجات أساسية.
السيدات و السادة
تري متى بدأ الإنسان حواره مع الآخر؟ لعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا ما سلمنا بأن الإنسان يمارس الحوار منذ بداية الوجود البشرى. و لعلنا لا نجاوز الحقيقة كذلك إذا ما سلمنا بأن ممارسة الحوار كانت سابقة على توصل الإنسان لأبجديات اللغة كما نعرفها اليوم.
لقد كانت أولى أشكال الحوار البدائي تتمثل في استخدام الإنسان للتعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلى الآخر. وقد شملت تلك اللغة أجزاء الجسد جميعا: العيون، الأنف، الشفتين، الذراعين، اليدين، الأصابع، الكتفين، حركة الجسد ككل ••• إلى آخره. ومازالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضا تحمل آثارا من تلك اللغة القديمة، لغة التعبيرات الجسمية. ويكفى أن نتأمل تعبيرات مثل : “ أوليته ظهري”. “فتح له ذراعيه”. “شمخ بأنفه”. “ربت عليه”. “قلب شفتيه”. “تمايل طربا”. “هز كتفيه” ••• إلى آخره.
ولو تركنا جانبا لغتنا المنطوقة والمكتوبة، لوجدنا دليلا آخر على عمق جذور تلك اللغة القديمة. الأطفال يحاوروننا منذ البداية باستخدام تلقائي لتعبيرات الجسد. والطريف أن الكبار – وخاصة الأمهات – يستعيدون فورا قدرتهم المرهفة القديمة على “ قراءة” تلك التعبيرات الجسمية الصادرة عن أطفالهم ، وترجمتها ، والرد عليها. الأم “ تقرأ” نظرات طفلها، وهمهمته، وحركات رأسه. بل إنها كثيرا ما تستطيع أن تميز بدقة بالغة بين بكاء العتاب، وبكاء الخوف، وبكاء الجوع، وبكاء الرغبة في النوم، أو الحاجة إلي تغيير الملابس، أو الرغبة في أن تحمله على ذراعيها ••• إلي آخره. ولكن ما أن يبدأ الطفل في النمو واكتساب اللغة، حتى يعزف شيئا فشيئا عن الاعتماد بشكل أساسي على تلك اللغة القديمة. وعادة ما يشجعه الكبار على ذلك سواء بالتعبير له عن فرحتهم به وهو ينطق كلماته الأولى، أو بتوجيهه مباشرة إلى ضرورة استخدام اللغة المنطوقة وإلا كفوا عن استقبال رسائله: “قل ما تريد••• تكلم ••• عبر بالكلمات ••• كف عن استخدام الإشارات“.
ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقا للتصنيفات التي تعرفها علوم الاتصال الحديثة، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصي، أو بعبارة أخرى أكثر أصالة “الاتصال وجها لوجه “. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى تعبيرنا العامي الدارج “عيني في عينك “ بمعنى واجهني مباشرة لأعرف مدى صدق ما تقول.
الزميلات و الزملاء
الحوار اتصال متبادل بين طرفين أو عدة أطراف، أفكار يتبادلها أطراف الحوار. بداية الحوار إذن فكرة تنشأ في وعي الفرد؛ و لكي تصل تلك الفكرة إلي ساحة الحوار تتخذ مسارا طويلا يحكمه ما نطلق عليه قوانين حياة الأفكار. و تحدد تلك القوانين مسارا للفكرة من العقل حتى ينطق بها اللسان. يبدأ الفرد بامتحان فكرته داخل نفسه قبل الإفصاح عنها؛ فإذا ما وجد لسبب أو لآخر أن فكرته سخيفة أو غير منطقية أو صادمة أو تافهة أو متهورة؛آثر الالتفات عنها، و من ثم يموت الحوار قبل أن يبدأ. ذلك هو العائق النفسي الأول للحوار. ألا يبدأ قط، و أن يظل أسير الذات.
أما إذا ما اجتازت الفكرة ذلك العائق، و اقتنع الفرد بفكرته، و بأهمية الإفصاح عنها؛ تلفت حوله متأملا: تري هل الوقت مناسب للإفصاح؟ هل سيتقبل المحيطون الفكرة؟. تري هل يساوي الإفصاح ما قد يواجه الفكرة من رفض، و ما قد يواجه صاحبها من عنت؟ إذا كانت التوقعات سلبية، و مؤشرات الرفض عالية تفوق القدرة علي الاحتمال – و هي قدرة تتفاوت من شخص لآخر- فقد يؤثر المرء السلامة و يلتزم الصمت رغم اقتناعه بفكرته. إنه العائق النفسي الثاني من معوقات الحوار: الخوف من تبعات الإفصاح و من رفض الآخرين؛ و قد يصل الأمر بالفرد أحيانا إلي الرعب من مجرد التفكير في أمور تلح علي خاطره، و من ثم يندفع ليغرق نفسه فيما يصرفه عن هم التفكير لينسي الدنيا و يريح باله. إننا كثيرا ما نعادل في لغتنا اليومية بين “الفكر” و “الحزن”
و لكن قد تبقي الرغبة في الإفصاح قوية ملحة تبحث لنفسها عن منفذ؛ فتدفع بالفكرة من حين لآخر لتطل برأسها ثانية: لعل المحيط قد تغير، أو لعل ميزان قوي الرفض قد تعدل؛ و حين تنتصر الرغبة في الإفصاح يقدم الفرد آنذاك علي اختبار فكرته بين معارفه و أصدقائه فإذا لم يجد لديهم صدى إيجابي، فقد يعاوده خوفه القديم فيتخلي عن فكرته مؤثرا السلامة، أو يختزنها محاولا مراجعتها و إعادة صياغتها، منتظرا أن تلوح أمامه فرصة جديدة. إنه العائق الثالث في طريق الحوار. و هو عائق نفسي اجتماعي.
و قد يكون المرء محظوظا فتجد فكرته صدي لدي من طرح فكرته عليهم، و عندها تبدأ مسيرة الحوار، و تنتقل ملكية الفكرة من صاحبها الأصلي لتصبح مشاعا بين أفراد الجماعة التي تبنتها. تتولي الدفاع عنها و تطويرها و تحديثها و تفسيرها و تعديلها و تأويلها بما تراه مناسبا, و قد تختلف الجماعة حول تلك التحديثات و التفسيرات و التعديلات و التأويلات اختلافا يصل إلي حد الانشقاق و استقلال كل جماعة فرعية بتأويلها الذي تراه الأقرب للصواب.
السيدات و السادة
إن تلك الرحلة الطويلة للفكرة من عقل صاحبها إلي لسانه إلى أن تتحول إلي حوار فكري ممتد و متشعب, لا تمضي منعزلة عن الظروف الاجتماعية التاريخية المصاحبة لنشأتها و تطورها. فاستمرار الحوار و ازدهاره، أو ذبوله و انحساره، يخضع لاحتياجات المجتمع في مرحلة تاريخية معينة؛ كما يخضع من ناحية أخري لطبيعة البناء الفكري السائد الذي قد يشجع الحوار حول أفكار بعينها و يحظر مجرد الاقتراب من أفكار أخري.
و علي سبيل المثال فقد شهد القرن التاسع الميلادي عالما فيلسوفا طبيبا صيدلانيا هو أبو القاسم عباس بن فرناس الذي عاش في قرطبة في عصر الخليفة الأموي الحكم بن هشام. وقام عباس بن فرناس بتجربته الشهيرة في مجال الطيران بعد أبحاث وتجارب عدة، و قام بشرح تلك الأبحاث أمام جمع من الناس دعاهم ليريهم مغامرته القائمة على الأسس العلمية؛ و لكن الفكرة لم تحظ بانتشار آنذاك لأن المجتمع العربي الأندلسي لم يكن في حاجة لوسيلة سريعة للانتقال من مكان لآخر؛ و من ثم لم يهتم ذلك المجتمع بتطوير الفكرة، فذبلت و انزوت.
و لكن فكرة الطيران عاودت الظهور في مطلع القرن العشرين، أي بعد مضي ما يقرب من ألف عام علي يدي الشقيقين الأمريكيين رايت اللذان ينسب إليهما معظم المؤرخون القيام بأول تجربة طيران ناجحة في 17 ديسمبر 1903، و بعد سنوات قليلة تنبهت الحكومة الأمريكية إلى أهمية الطيران وإمكاناته الواسعة و حاجتها إلي تطويره. لقد اتسعت المعمورة و ترامت أطرافها و أصبح التواصل في حاجة للطيران.
الفكرة إذن قد تموت؛ إذا ما سبقت عصرها و لم يكن المجتمع في حاجة لتطويرها.
السيدات و السادة
لا يقتصر الأمر علي حاجة المجتمع أو عدم حاجته لتطوير فكرة معينة؛ فقد يكون المجتمع في حاجة بالفعل لتطوير و تطبيق فكرة بعينها، و لكن مرحلة التطور التي يجتازها تفرض نوعا من الحظر على الترويج لأفكار بعينها، محبذة الترويج لأفكار قد يحكم عليها التاريخ فيما بعد أنها أفكار ليست خاطئة فحسب، بل ضارة مدمرة أيضا، و تختلف درجة صرامة الحظر كما يتباين حجم التحبيذ من مجتمع لآخر و من مرحلة تاريخية لأخرى.
و لا يقتصر ذلك الموقف الاجتماعي المحافظ علي الأفكار السياسية أو الفلسفية؛ فالأفكار و المكتشفات العلمية قد عانت و تعاني الكثير من العنت؛ حين تمثل تهديداً للبناء الفكري السائد في المرحلة المعينة.
على سبيل المثال؛ دوران الأرض حول نفسها و حول الشمس، حقيقة لا جدال فيها، و هي ليست بالحقيقة الجديدة، فدوران الأرض لصيق بوجودها. ومنذ أن وجد الإنسان فوق تلك الأرض وهو محاط بالعديد من الظواهر التي تدل بشكل قاطع على دورانها، ورغم أن تلك الظواهر لم تتغير منذ أن وجدت الأرض حتى الآن ، ورغم أنها كانت تحت سمع وبصر الإنسان منذ وجوده، و رغم أن تفسيرها علميا قد فتح آفاقا لا حد لها لتحسين حياة البشر؛ فقد ظل المجتمع البشري لحقب طويلة يرفض بضراوة القبول بذلك التفسير الموضوعي العلمي؛ بل و لقي أصحاب الدعوة لذلك التفسير عنتا و اضطهادا لا يتسع المقام لتفصيله؛ و دوران الأرض مجرد مثال و غيره من الأمثلة ما يفوق الحصر.
و تتباين المجتمعات البشرية من حيث مواقفها من توسيع مساحات الحوار أو تضييقها؛ و تشير وقائع التاريخ إلى أن تقدم المجتمعات و الدول يرتبط باتساع تلك المساحات؛ بل أن نتائج دراسات العلوم الإنسانية تكاد تجمع علي انطباق تلك القاعدة علي تنشئة الأبناء؛ فكلما أزيلت العوائق أمام تساؤلات الطفل، و كلما تشجع الطفل علي المحاولة و الخطأ، ازدادت احتمالات أن يصبح فيما بعد قويا ناضجا واثقا.
الصديقات و الأصدقاء
الحوار وسيلة لتفاعل الآراء و الأفكار بين طرفين أو أكثر، و بصرف النظر عن نتيجته، فإن إفصاح كل طرف عن آرائه يعد شرطا لازما لبداية حوار حقيقي، و نظرا لأن تعبير “الحوار” قد اكتسب سمعة إيجابية تجعله لصيقا بمفاهيم المرونة و الانفتاح الفكري و الحرية و الديمقراطية، بحيث يصبح رفضه أو الانسحاب منه رذيلة منفرة؛ فقد أصبحت ممارسة “الحوار” مغرية حتى لمن لا يطيقون مرونة أو انفتاحا و لمن لا يعرف عنهم ميلا لحرية أو تحرر، و حيث أنه مع عصر انفجار المعلومات و عالم الإنترنت لم يعد مكان للإعاقة المادية للحوار و تبقي العوائق النفسية الاجتماعية إلي جانب افتعال أنماط من الحوار الزائف.
كثيرا ما نلجأ إلي اصطناع مواقف تتخذ شكل الحوار دون أن تتوافر لها أبسط شروطه. كثيرا ما شهدنا في حياتنا اليومية العديد من “الأحاديث المطولة” بين أب متسلط و أبنائه؛ أو بين مسئول دكتاتور و معاونيه أو مرؤوسيه، أو بين رموز الاحتلال و ممثلي الشعب، و قد تبدو تلك الأحاديث كما لو كانت حوارا حقيقيا حيث الأطراف جميعا تتبادل الكلام و الصمت و الإنصات و لكنها في حقيقة الأمر لا تتحاور بالفعل؛ بل يقوم الطرف الأقوى بإملاء “أوامره” علي الطرف الأضعف، و لا تكون “الأحاديث” في هذه الحالة إلا نوعا من محاولة إكساب ذلك الإملاء الكريه نكهة الحوار المقبولة و المحببة؛ مع الحرص دائما علي تذكير الطرف الأضعف بمحدودية قدراته و بأن مجرد القبول بالحديث معه يعد مكسبا ينبغي الحفاظ عليه.
و شهدنا نوعا آخر من تلك الحوارات الزائفة؛ يتم فيها استبدال الإصغاء بالحوار بحيث يبدو مجرد الإنصات كما لو كان حوارا حقيقيا. يغلب علي تلك “الأحاديث” أن الطرف المتلقي أو المستمع أو المنصت، و الذي غالبا ما يكون من ممثلي السلطة الأبوية أو السياسية أو غيرها، لا يبدي رأيا سوي الترحيب بالاستماع و السعي إلي الاستزادة، دون تورط في وعود أو حتى ردود؛ و يكون أشبه بمن يستمع إلي مطرب أو خطيب حيث تكفي هزة رأس تشجع علي الاستمرار دون أن تعني بالضرورة موافقة علي ما يقال، أو إيماءة متجهمة توحي بامتعاض دون أن تتحول إلي رفض صريح. و لا تخلو مثل تلك “الأحاديث” من فائدة لمن يشارك فيها؛ فمن يتحدث دون أن يعترضه أحد قد يتوهم أنه مشارك في حوار حقيقي، فينخفض توتره و يشعر كما لو كان لكلماته قيمة، و من ناحية أخري فقد يتوهم المستمع أنه يمارس ديمقراطية غير مسبوقة تثبت بالفعل سعة صدره و تقبله للنقد و انفتاحه علي مختلف الآراء؛ و يمضي كل واهم مستمتع بأوهامه.
السيدات و السادة
ثمة نوع آخر من تلك الحوارات الزائفة يمكن أن نطلق عليها “حوارات الصدى”، حيث يفضل البعض الحوار مع من يعرفون مسبقا أنهم أقرب للاتفاق معهم حول موضوع الحوار, فإذا ما أجبروا علي الحوار مع غيرهم بدا الأمر كما لو كانوا يكتشفون فجأة أنهم ليسو مؤهلين للدفاع عن تلك الأفكار التي يتبنونها و التي أصبحت جزءا من هويتهم؛ و أصبح مجرد اهتزاز تلك الأفكار الثابتة مصدر فزع هائل؛ و آنذاك يتحول الحوار إلي صراخ قد يصل إلي حد الاعتداء البدني المباشر, أو حتى الدعوة إلي إفناء ذلك الآخر المزعج، أو علي الأقل طرد ذلك المختلف من ساحة الحوار كما يحدث كثيرا في شبكات التواصل الاجتماعي.
صحيح أن حوار المتفقين في الرأي حوار مريح يبعث علي الرضا و السعادة؛ فكل طرف يخرج منه و قد تلقي تدعيما لوجهة نظره؛ و كلما استبعد الآخرين المختلفين من ساحته، و خلصت تلك الساحة للمتفقين معه، ازداد الجميع اطمئنانا. غير أنها طمأنينة زائفة خلقها حوار زائف لا يؤدي إلي اختبار حقيقي للأفكار أو تقييم جاد لأنماط السلوك و الممارسة أو حتى إلي زيادة في حجم المعرفة بالآخر. إنه أشبه بحوار الذات الذي سبق أن أشرنا إليه.
الصديقات و الأصدقاء
إن العديد من الجماعات تحذر أبناءها من الحوار مع من يتبنون آراء مخالفة, و تدعوهم إلي تجنبهم, و تزودهم بصورة منفرة عن أفكارهم و سلوكياتهم, فضلا عن أن من يدفعه الفضول لمحاولة التعرف علي تفاصيل الفكر المختلف من مصادره الأصلية, ينال احتقار و ازدراء الجماعة التي يزداد انغلاقها علي ذاتها المتضخمة, و تمضي راضية عن نفسها كل الرضي, متيقنة كل اليقين أن فكرها هو الفكر الصحيح الأوحد, و لكن ما أن تنكسر أسوار العزلة – و هي غالبا ما تنكسر يوما في ظل العولمة و الانفجار الإعلامي- و حينها يجد المرء نفسه في مواجهة عواصف من الأفكار و الحجج التي تهز بنيانه الفكري, مكتشفا عجزه عن مناقشة تلك الحجج أو استخدام حجج منطقية مضادة، فلا يصبح أمامه آنذاك إلا الاستسلام للآخر موليا ظهره لجماعته, أو محاولة تدمير ذلك الآخر الذي يعذبه, أو الانطلاق علي غير هدي موليا ظهره للجميع, أو التردي في هوة خلل نفسي قد يدفع به إلي الانتحار.
إن المبالغة في تصوير من يختلف عنا في صورة “الوحش الشرير المجنون” بهدف التنفير منه, يحمل مخاطرة انهيار تلك الصورة بكاملها و انقلابها إلي النقيض, إذا ما تهاوي جزء منها مهما كان ضئيلا بفعل خبرة مباشرة تلقائية أو مقصودة تكشف جانبا طيبا إنسانيا مهما كان ضئيلا من ذلك الآخر يتناقض مع صورته الشيطانية المسبقة, أو تكشف اتساقا داخليا في فكره بما يتناقض مع تصويره كمختل مشتت.
السيدات و السادة
إننا نعيش في عالم أصبحت فيه الأسوار الفكرية الحاكمة للحوار مجرد أوهام اكتسحها التاريخ، و أصبح فتح قنوات التفاعل و الإفصاح، و التدريب علي مهارات الحوار، و فنيات تخطي عقباته، هو السبيل الأوحد للتقدم الحضاري، و للحفاظ الحقيقي علي هوية الجماعة و علي انتماء الفرد للأسرة و للوطن، بل و للدين الصحيح أيضا.
و لا يمكن تحقيق شيء من ذلك سوي بأن تحرص الجماعة علي عدة أمور متكاملة:
الأمر الأول:
تزويد أبنائها كبارا و صغارا بصورة “حقيقية واقعية” لأفكار الآخرين كما يؤمنون بها, دون مخافة اكتشاف نقاط التشابه و الالتقاء سواء في الأهداف البعيدة الأقرب إلي النوايا, أو في الأهداف المباشرة الأقرب إلي ضوابط السلوك اليومي.
الأمر الثاني:
تزويد أعضاء الجماعة بنقاط الاختلاف الفكري مع أولئك الآخرين, و تدريبهم وفق ما تسمح به ظروفهم علي مهارات الحوار مع الآخر: فيم نتناقش؟ و متى نتناقش؟ و متى ننسحب من النقاش؟ و كيف ينبغي أن يكون الانسحاب؟ و كيف نكفل مناخا وديا للحوار؟
الأمر الثالث:
تأكيد فكرة أن التقدم الفكري لا يتحقق بمجرد أن تعلو أصواتنا علي الآخرين, مدينين أفكارهم, محقرين لهم, بل إن التقدم الحقيقي يتمثل في القدرة علي إدارة حوار مثمر.
الأمر الرابع:
تأكيد فكرة أنه لا توجد جماعة بشرية تخلو من الطيبين ذوي الخلق, كما أنه لا توجد جماعة بشرية كلها أشرار سفلة, بل إنه لا يوجد إنسان شرير أو خير بشكل مطلق.
الأمر الخامس:
تأكيد فكرة أن الحوار مع الآخر لا يعني بحال الاعتراف بصحة أفكاره النظرية أو مواقفه العملية و لكنه يعني علي الأقل مزيدا من التعرف علي تلك الأفكار لزيادة القدرة علي تفنيدها.
الأمر السادس:
تأكيد حقيقة أنه لم توجد قط عبر التاريخ البشري جماعة أجمع أفرادها جميعا علي تبني فكرة مهما كانت صحيحة؛ و لا علي رفض فكرة مهما كان شذوذها. و قدر البشر أن يتعايشوا مختلفين متحاورين.
الأمر السابع و الأخير:
أن نشجع أبنائنا علي فضيلة الإفصاح عن الأفكار دون خوف، و أن طرح فكرة خاطئة ليس بجريمة؛ كما أن الاعتذار عن الخطأ ليس سبة؛ و لعل شاعرنا المبدع صلاح جاهين كان يقصد شيئا من ذلك حين قال:
اتكلموا .. اتكلموا .. اتكلموا … محلا الكلام، ما ألزمه … ما أًعظمه … فى البدء كانت كلمة الرب الاله ، خلقت حياه ، و الخلق منها اتعلموا … فاتكلموا
السيدات و السادة
شكرا لحسن إصغائكم

المصدر: https://www.facebook.com/kadry.hefny/posts/10152599470510555

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *