المعرفة سر الهزيمة ومفتاح النصر

إن نسبة كبيرة من المصريين لم يعايشوا بحكم السن حروب أمتهم انتصارا وانكسارا. البعض منهم قرأ أو سمع أصداء بعيدة لما جرى عام 48، و 56، و 67، 73. و ليس من قرأ وسمع كمن عاش واكتوى بالهزيمة وفرح بالانتصار.

وإذا كان الجميع يؤكدون ضرورة استخلاص الدروس؛ فلعل استخلاصها من الهزائم أهم من استخلاصها من الانتصارات، وذلك لأن الانتصارات بحكم ما تحمله من ذكريات مشرقة سعيدة تكون أكثر جاذبية ومن ثم يكون الإقبال على التنقيب فى تفاصيلها واستخلاص دروسها أكبر من التنقيب فى تفاصيل الهزائم بما تحمله من ذكريات قاسية مؤلمة؛ ولعل ذلك قد يفسر حرصى و حرص غيرى على الكتابة فى ذكرى انتصار أكتوبر 73. ولذلك ومع حلول ذكرى الهزيمة الكارثية التى منينا بها فى يونيو، بدا لى مناسبا بعد مرور نصف قرن أن أستعيد ذكرياتها آملا أن يكون الألم قد خفت ولو قليلا.

إن حجم الشعور بالكارثة يتناسب طرديا مع حجم الآمال الوردية التى سبقتها فبدت كما لو كانت مفاجأة صادمة.

كنا قبل يونيو 1967 نعيش واقعا بدا لغالبيتنا ورديا مبشرا: سلسلة التأميمات التى بدأت فى أغسطس 1955 بتأميم مصانع عبود للسكر، لتبلغ ذروتها فى نوفمبر 1961. هاهى أموال الأغنياء و الأجانب تؤمم لصالح الفقراء. وعلى المستوى السياسى صدر ميثاق العمل الوطنى و تمت 1962 إقامة الاتحاد الاشتراكى العربى وتنظيمه الطليعى الذى تمتد تشكيلاته إلى أقاصى القرى و النجوع المصرية. و على المستوى العسكرى كنا نتراص فى عيد الثورة من كل عام لنشهد استعراض القوات المسلحة وفى القلب منه الصاروخان القاهر والظافر محمولان على عربتين عسكريتين بينما تحلق الطائرات و يصدح عبد الحليم حافظ بكلمات صلاح جاهين التى صدح بها للمرة الأخيرة فى 23 يوليو 1966 مرددا «صورة صورة كلنا كده عايزين صورة. صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة» كان غالبيتنا يرى أن بلده قد تزينت و أخذت زخرفها و أننا أصبحنا فى ذرة قوتنا؛ و فجأة فى قمة ذلك التوهج المتفائل للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة؛ إذ بالزخرف ينكسر و الصورة تتهشم، و بتهشم الصورة تظهر الحقيقة: لقد هزمتنا إسرائيل التى ظللنا طويلا نتصور قوتها على غير حقيقتها ونتصور قوتنا أيضا على غير حقيقتها.و إذا كان أهل التخصص العسكرى و السياسى هم الأقدر على تقييم العوامل العسكرية و السياسية التى أدت بنا للهزيمة؛ فإننى لا أظن ذلك متعارضا قط مع دور العوامل النفسية التى تسببت فى تلك الهزيمة. و إذا كان ثمة من يقول وبحق إن الحرب تبدأ فى عقول البشر فإن عقول هؤلاء البشر ترسم مسار الحرب وتحدد نتائجها.

و يبدو أن جمال عبد الناصر قد أدرك منذ اللحظة الأولى للهزيمة مدى ضآلة حجم معرفتنا العلمية بالعدو، فبادر بالتوجيه لإنشاء مركز الدراسات السياسية و الصهيونية الذى تولى إدارته الأستاذ حاتم صادق تحت مظلة مؤسسة الأهرام؛ وبدأ العمل فى المركز من نقطة الصفر؛ وحاولت من زاوية تخصصى النفسى تلمس جوهر المواجهة الفكرية الصهيونية العربية.كان الخطاب الصهيونى يقوم على المزج بين نغمتين أساسيتين: أولا: نغمة استضعافية تقوم على إبراز ضعف اليهود وتعرضهم الدائم للإفناء، و ما يمثله العرب من تهديد لإسرائيل « تلك الدولة الصغيرة الغارقة فى الطوفان العربى الإرهابي». ثانيا: نغمة استقوائية تقوم على إبراز قوة إسرائيل وقدرتها على إحباط مخططات أعدائها وأعداء اليهود فى جميع أنحاء العالم ويكون الحديث آنذاك عن «إسرائيل ذات القوة القاهرة والذراع الطويلة. الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تمتلك السلاح النووي».

ورغم ما يبدو من تنافر بين هاتين النغمتين –نغمة الاستضعاف ونغمة الاستقواء-، فإنهما تكادان تتآنيان بمعنى أنهما تعزفان فى وقت واحد كما لو كانتا تشكلان جملة موسيقية واحدة. وقام الخطاب العربى فى المقابل على نغمتين متكاملتين: النغمة الأولي: التهوين من شأن الخطر الصهيونى والنظر إلى الصهيونية باعتبارها تمثل اليهود، وأن اليهود أشرار خبثاء مخادعون ولكنهم جبناء لا يقوون على مواجهتنا. ولم يكن غريبا أن يلعب اتساق هذه النغمة العربية مع نغمة الاستضعاف الصهيونية التى أشرنا إليها دورا ملحوظا فى تيسير خروج يهود الدول العربية وانضمامهم إلى الكثافة اليهودية فى إسرائيل.

النغمة الثانية: نغمة التهويل من حجم القدرة العربية وقدرتها على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه بإعادة اليهود إلى بلادهم وإعادة الفلسطينيين إلى بيوتهم. ولم يكن غريبا أيضا أن يلعب اتساق هذه النغمة العربية مع نغمة الاستضعاف الصهيونية التى أشرنا إليها فى تدعيم ترويع يهود إسرائيل ودفعهم دفعا إلى مزيد من التماسك. لقد أدى ارتفاع الصراخ العربى بهاتين النغمتين المتجاوبتين مع نغمة الاستضعاف الصهيونية إلى خفوت المعرفة العربية بتفاصيل ما يجرى فى إسرائيل، باعتبار أن الشأن الإسرائيلى الصهيونى بكامله شأن عارض، وشيئا فشيئا تلاشت إسرائيل أو كادت تتلاشى عن الوعى العربى وتجاوز الأمر حدود التجاهل ليصبح جهلا ثم تجهيلا، ويصبح ذلك التجهيل بمنزلة السياسة العربية المعتمدة، بل ولتصبح محاولة تحصيل أى معلومات عن إسرائيل من قبيل المحرمات.كان ذلك هو تشخيصنا حين بدأنا دراسة إسرائيل علميا منذ نصف قرن؛ و تغير العالم وتغيرت ملامح خريطة الأعداء. ترى هل ما زلنا ممسكين بالدرس المستفاد الذى تأكد عمليا فى انتصار أكتوبر 73: المعرفة هى سر الهزيمة و مفتاح النصر.

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/597596.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *