كثيرا ما نسمع عبارة: ما رأى العلم؟ ما رأيك باعتبارك متخصصا؟، ويحدث أن ننزلق إلى الإجابة مباشرة سواء كان المرء متخصصا فى فرع من فروع العلوم الإنسانية أو الفيزيقية. ولقد تزايدت هذه النغمة أخيرا وأصبح مألوفا أن يستهل المرء حديثه مؤكدا أنه يتحدث من وجهة النظر العلمية، فى مواجهة العديد من الأفكار الخرافية التى تملأ حياتنا وتعطل تقدمنا الحضارى خاصة فى مجالات الطب والعلاج و غيرها من أمور تمس حياتنا ،بل تهددها من ختان الإناث إلى نقل الأعضاء إلى التداوى بعلاجات قديمة نلبسها ثوب قداسة يجعلها بمنأى عن النقد والمناقشة.
العلم لا يعرف قرارا بالأغلبية ولا حتى بالإجماع يغلق بعده باب المناقشة كما هو معروف و مبرر فى الشئون السياسية و القرارات الإدارية؛ و من أجل ذلك لا يتوقف انعقاد المؤتمرات و الندوات العلمية ،حيث يظل باب النقاش مفتوحا حيال أمور بدت مستقرة لفترة طويلة. وهكذا يتقدم العلم. ومما يؤكد ذلك أن جماعة العلماء تكاد تكون الجماعة الوحيدة التى تدعو دون كلل لنقد ما توصلوا إليه من نتائج علمية.
لقد قامت التحولات الكبرى فى جميع العلوم على أكتاف علماء تحدوا ما هو سائد فى تخصصاتهم العلمية؛ ولم يحاولوا مجاراة الغالبية، وخاضوا فى سبيل ذلك حروبا ضروسا. لو استكان داروين وفرويد و جاليليو وأينشتاين وابن رشد وماركس وآخرهم هوكينز الذى غادرنا أخيرا لخسر العلم كثيرا. كان هؤلاء جميعا عباقرة أفذاذا سبحوا ضد التيار، ولكن أحدا منهم لم يدع أنه يمتلك اليقين المطلق والكلمة الأخيرة فى مجال تخصصه؛ بل صرفوا الكثير من جهدهم لمناقشة الحجج المناهضة لما انتهوا إليه من نتائج. صحيح أن لغة بعضهم فى الحوار كانت حادة؛ و لكنهم أبدا لم يعرفوا مثل ذلك التعالى وتضخم الذات الذى نشهده لدى العديد من المتخصصين اليوم.
إن العديد من مثقفينا وعلمائنا تضيق صدورهم ويكادون ينفجرون غضبا واستعلاء إذا ما ووجهوا بفكرة تتناقض مع أفكارهم؛ ولا يلبثون أن ينهالوا تجريحا وتعنيفا وسخرية على تلك الفكرة وصاحبها، بحيث يصيبونه بالرعب من الاختلاف فى الرأي؛ فما إن يطرح شاب صغير فكرة بدت له اختراعا جديدا، حتى يعنفوه ويسخفوا محاولته ويسخروا منها، كما لو كانوا يحذرونه من تكرارها. وقد يكون ما توصل إليه صاحبنا ليس اختراعا ولا اكتشافا حقيقيا، ولكن الموقف الصحيح فيما نرى هو ما نطلق عليه «الخطوات الثلاث للتقييم العلمي» بمعنى أن يبدأ التقييم بالإشادة بفضول «المكتشف الشاب» وسعيه لاكتشاف الجديد و حرصه على إعلان ما توصل إليه ، ثم ننتقل إلى مناقشته بهدوء وأناة فى تفاصيل ذلك الذى توصل إليه، وتبصيره بأن للاختراعات والاكتشافات أصولا أولها استيعاب ما سبق أن وصل إليه العلم ولفحص الاكتشاف الجديد وتقييمه قواعد يجب اتباعها، ثم نختتم التقييم بحثه على مزيد من التجويد و الدقة.
لقد تم اكتشاف الملوية البوابية فى 1982 على يد العالمين الأستراليين وورن ومارشال Robin Warren and Barry Marshall. حيث أكد العالمان فى ورقة بحثهم أن معظم حالات قرحة والتهاب المعدة ترجع إلى نوع من البكتيريا وليس التوتر أو الطعام ذى البهارات كما اعتقدنا سابقاً، ولم تجد الفكرة الجديدة حماسا أو قبولا، لذا ولكى يثبت صحة فرضيته، قام Marshall بشرب كمية من عصارة مستخرجة من معدة مريض بالقرحة، وأصيب بالتهاب فى المعدة؛ وسرعان ما اختفت أعراض الالتهاب فى غضون أسبوعين من تناول مضادات حيوية، ونشرت هذه الدراسة فى عام 1984 فى الدورية الطبية الأسترالية وتعتبر أحد أكثر المقالات التى شيد بها فى تلك الدورية. فى العام 2005، قام معهد كارولينسكاthe Karolinska Institute فى ستوكهولم بتقديم جائزة نوبل فى الطب والفيزيولوجيا إلى مارشال ووورن تقديرا لاكتشافهما ، واستمر الدكتور مارشال فى القيام بأبحاث لتطوير اكتشافه بمعمل بيولوجيا حيوية بجامعة غرب أستراليا فى بيرث.
خلاصة القول إن أحدا لا يملك احتكار الحديث باسم العلم، فالعلم لا ينطق بلسان ولكن تنطق بتأويله ألسنة العلماء الذين تتباين تأويلاتهم بتباين المدارس العلمية التى ينتمون إليها؛ وبتباين رؤاهم للعالم من حولهم؛ ويظلون دوما ما داموا علماء بحق متمسكين بمحدودية علمهم وبمرونة تقبلهم الرأى المخالف وبضرورة أن يظل باب الاجتهاد مفتوحا؛ وإلا تحولوا إلى مجموعة أصولية نخبوية تحاول عبثا الوقوف أمام تيار التقدم.