استحالة أن نرضى الجميع

خلال متابعة أدائنا الإعلامى لتصويت المصريين بالخارج، و التمهيد لمشاركتنا فى الانتخابات الرئاسية الوشيكة؛ استعدت حقيقة ثابتة يؤكدها تراث مدارس العلاج النفسي، فضلا عن علم النفس السياسي، وقبل ذلك كله دروس التاريخ: لم يعرف التاريخ البشرى من استطاع أن يقنع الجميع برؤيته، مهما تكن مشروعية ونبل مقاصده وأهدافه، وأن قدرة الفرد والجماعة على حد السواء على الحركة الرشيدة يتوقف على القدرة على دفع ثمن الاختيارات، وأن الأمر فى النهاية يحسمه اتفاق و تعارض المصالح.

ورغم تلك الحقيقة الثابتة؛ فإن العديد من برامجنا الإعلامية حاليا لا تتحدث سوى عن إنجازات حقيقية تحققت خلال فترة الرئاسة الأولي؛ مغفلة ما تؤكده دراسات الإعلام خاصة ما يتعلق بسيكلوجية الإقناع من أن الإقناع يبدأ بعرض وجهتى النظر حيال الموضوع محل المناقشة ثم ترجيح وجهة النظر الإيجابية المطلوبة. إن الدور الذى تلعبه تلك البرامج رغم حسن نية و وطنية أصحابها لا تستوعب الدرس الذى قدمته و تقدمه القنوات التركية و القطرية التى لا تتحدث سوى عن السلبيات فى مصر سواء كانت صحيحة أو كاذبة دون إشارة لأى شىء إيجابى و هو ما جعل مصداقيتها تتآكل.

وقد كان السيد الرئيس موفقا تماما حين ذكر صراحة فى واحد من أحاديثه الأخيرة؛ أن ظاهرة الحصول على 100% من الأصوات قد انتهت إلى الأبد؛ وأن الإجماع لم يعد له وجود فى عالم اليوم؛ وأن ذهاب 100 مواطن إلى صناديق الاقتراع ليوافق منهم 70 و يعارض 30 أفضل من أن يذهب السبعون من الموافقين لتكون النتيجة 100% يستحيل على مؤسسة اقتصادية مثلا أن تحظى بدعم منافسيها، كما يستحيل على حزب أن يحظى بتأييد «الجميع»؛ فذلك أمر يتنافى مع طبيعة الأمور، ولذلك فإن الحصول على ما يقرب من 100% من أصوات الناخبين فى أى انتخابات يعد أمرا مثيرا للسخرية، ويستحيل كذلك على دولة أن تحظى بتأييد دول العالم قاطبة إلا فى حالة واحدة تكاد تكون مستحيلة فى عالم اليوم: ألا تحدد أهدافها الحقيقية وأن تلونها حسب مقتضى الحال، وقد كانت مثل هذه «الإستراتيجية» دوما قصيرة النظر محدودة الدوام وأصبحت اليوم فى حكم الوهم المستحيل فى عصر الانفجار الإعلامي، حيث لم يعد ممكنا عزل الخطاب الداخلى عن الخطاب الخارجي، أو عزل الخطاب الموجه لدولة معينة عن ذلك الموجه لدولة أخري. ولم يعد هناك مجال كبير لهمسات فى غرف مغلقة، أو لأحاديث تحمل مضمونا يتغير بتغير اللغة، وبمكان محطة البث، وبهوية المخاطب. ويصبح طبيعيا لمن يدعو لكسب الجميع بذلك الأسلوب أن ينتابه الفزع إذا ما أجبر على الإعلان عن قراراته و الإفصاح عن أهدافه وتحالفاته بوضوح حتى لو كانت مشروعة من وجهة نظره، ويصبح دفاعه عنها مشوبا بالخجل والتلعثم ومحاولة التلاعب بالألفاظ، متعرضا بذلك لتهجم الأعداء الذين يبتزونه و يزايدون عليه لكشف المزيد مما يخفيه و يسعى لستره، وهجوم الحلفاء الذين يرون أنه يخذلهم و يتخلى عنهم، وفى النهاية يكون مهددا بخسران الجميع.

إن الأهداف والسياسات فى هذا العالم تتباين و تتعارض وفقا للمصالح، ومن ثم فعلى كل دولة أو جماعة أن تحدد أهدافها أولا، وأن تحسب جيدا قدراتها الواقعية، وأن تدرس تفاصيل العالم الواقعى حولها، ثم تقيم تحالفاتها مع من لا تتعارض مصالحهم مع مصالحها، وأن تدفع الثمن الحتمى لتلك التحالفات متمثلا فى تحمل غضب الآخرين وعدائهم، إلى أن تتغير خريطة المصالح فتتغير تبعا لها طبيعة التحالفات. ولا يعنى ذلك بحال أن تكون تلك التحالفات عدوانية متقاتلة بالضرورة؛ بل على العكس، فإن إعلان تحالفات واضحة الحدود والأهداف، والدفاع عنها دائما بوضوح ودون خجل أو تردد أو تلعثم، يكون مدعاة لحوار واضح بين الحلفاء، ولحوار واضح أيضا ــ رغم سخونته ــ مع التحالفات الأخرى ذات الأهداف المعارضة أو حتى المناقضة؛ فى حين أن الغموض يخلق حافزا لدى الجميع للضغط بكل الوسائل بهدف حسم هذا الغموض فى مصلحة طرف أو آخر.

خلاصة القول إنه من المستحيل أن نتبنى سياسة نراها ضرورية للحفاظ على أمننا الوطني، بدءا من الالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل، وتدمير الأنفاق فى سيناء، وفى نفس الوقت تأييد الحق الفلسطينى فى عودة اللاجئين وإقامة دولة عاصمتها القدس على حدود 67، والحرص على تبنى سياسة تقوم على التعمير والبناء؛ ونتوقع بعد كل ذلك أن تلقى تلك السياسة تأييدا من الجميع، بل لا سبيل للهروب من مواجهة غضب ورفض وتهجم ومزايدات من يتبنون أهدافا وسياسات مناقضة وهم كثر.

 

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/643073.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *