علم النفس المثير للجدل (2)

يحدث لدى الكثيرين خلط بين الطب النفسى وعلم النفس؛ ولسنا بصدد جلاء الفروق بين العلوم الطبية ومنها الطب النفسى والعلوم الإنسانية ومنها علم النفس؛ ولكن ما يعنينا هو أننا حين نعلن عن هويتنا كمتخصصين فى علم النفس نواجه أحيانا بمن يشككون فى علمية تخصصنا كتخصص علمى قائم بذاته باعتبار أن كل فرد أكثر دراية بنفسه وبغيره و أنه ليس بحاجة لالتماس مشورة علماء متخصصين. ولا بد من الاعتراف بأن ذلك الاتهام يثير غضب الكثير منا ويدفع بهم إلى الطرف المقابل متمسكين بأن علم النفس هو أصعب العلوم.

ويمكننا أن نقسم تلك الصعوبات إلى مجموعتين، تضم المجموعة الأولى أهم الصعوبات المتصلة بموضوع علم النفس أى السلوك الإنساني. وتضم المجموعة الثانية أهم الصعوبات المتعلقة بمناهج البحث فى علم النفس.

أولاً : الصعوبات المتعلقة بالموضوع :

1 التفرد: ونعنى به عدم تشابه وحدات موضوع البحث، ففى حين يتعامل الباحث فى مجال العلوم الطبيعية مثلاً مع مواد تتصف وحداتها بالتطابق والتكرار، وبالتالى فإنه يستطيع أن يسلم ابتداء بأن ما تخلص إليه دراسته لوحدة مفردة يمكن أن يعمم ليشمل بقية المادة جميعا، ومثل ذلك التعميم المطلق يكاد يكون مستحيلا فى مجال دراسة السلوك الإنساني.

2 التغير: ونعنى به أن موضوع بحث عالم النفس أى السلوك الإنسانى موضوع يتغير. بل أنه يتخذ فى تغيره مسارات متشعبة ومسالك شتي، فهو تغير بتغير الأمكنة والحضارات فسلوك الأوروبى يختلف عن سلوك الإفريقي، بل أن سلوك أبناء المدن يختلف عن سلوك القرويين وهكذا. وهو يتغير كذلك بتغير الأزمنة فسلوك إنسان العصر القديم يختلف عن سلوك الإنسان المعاصر، وسلوك المصريين فى أوائل القرن التاسع عشر يختلف عن سلوكهم فى النصف الثانى من القرن العشرين, بل أن سلوك الفرد الواحد واستجابته لمؤثر محدد يتغير من لحظة إلى أخري.

ثانياً : الصعوبات المتعلقة بمناهج البحث:

1 التناول غير المباشر: ونعنى به أن طبيعة السلوك الإنسانى قد فرضت ضرورة تناول هذا السلوك فى كثير من الأحيان بطرق غير مباشرة، فالكراهية مثلا ليس لها وجود مادى مباشر ولذلك لابد عند دراستها من استنتاجها من خلال أنواع مباشرة من السلوك تشير إلى وجود الكراهية.

2 التحيز: ونعنى به أن عالم النفس يعد جزءاً من موضوع البحث بحكم كونه إنسانا. ولما كان هدف أى بحث هو الوصول إلى قوانين عامة، فإن هدف الباحث فى مجال السلوك الإنسانى هو الوصول إلى قوانين عامة تفسر سلوكه هو أيضاٍ. ومن هنا فإن تحيزاته الذاتية ورغباته وآراءه الشخصية قد تتدخل جميعا فى تفسيره للنتائج التى يصل إليها، بل قد يمتد تدخلها لتؤثر فى اختياره للوقائع محل الدراسة وللمنهج الذى يختاره لتناولها.

3 صعوبة التجريب: ونعنى بها أن تناول السلوك الإنسانى تناولا تجريبيا أمر تقف دون تحقيقه عقبات عديدة وتثور فى وجهه اعتراضات شتي. منها ما يكتسب طبيعة أخلاقية تحول دون التجريب على البشر ومنها ما يرجع إلى صعوبات تكتنف الموضوع فى حد ذاته ويتطلبها التجريب كالتسليم بثبات جوهر الظاهرة وإمكانية قياسها بشكل مباشر.

لعل تلك هى أهم وأبرز الصعوبات التى يقدمها العديد من الزملاء المتخصصين فى علم النفس، وهى التى يرتكنون إليها فى إصدار حكمهم بأن علم النفس «أصعب» من غيره من العلوم موضوعا ومنهجا. وثمة اعتراض أولى على صيغة افعل التفضيل المستخدمة فى هذا المقام، واعتراضنا يرتكن على مجموعة من المسلمات الأساسية فى علم النفس بعامة وفرع القياس النفسى على وجه الخصوص، والتى تدور حول أنه من المرفوض علميا استخدام تلك الصيغة فى مقارنة شخص بآخر أو سمة بأخرى إلا إذا ما ارتكز ذلك الاستخدام على أساس من التقدير الكمى الذى لا يتأتى توافره إلا إذا كان لدى العالم أداة موضوعية تمكنه من تلك المقارنة، وهى ما يعرف بالاختبارات النفسية. لقد أصبح فى حكم المرفوض حاليا استخدام مثل تلك الصيغة فى المقارنة بين الأفراد أو السمات. فليس مقبولا القول بأن فلانا أذكى من فلان، أو أن ذاكرة البدو أكثر حدة من ذاكرة أبناء الحضر والوقوف عند هذا الحد. بل أن ذلك القول ينبغى أن تسبقه سلسلة من الوقائع التفصيلية الدقيقة التى تؤدى إليه فى النهاية، فلابد مثلاً من القول أولا بأن فلانا هذا قد حصل على درجة كذا فى اختبار كذا للذكاء وأن لذلك الاختبار معاملا للصدق مقداره كذا وآخر للثبات مقداره كذا.

خلاصة القول إننا وجدنا أنفسنا حيال العديد من الأحكام التقديرية على «علم النفس»، أحكام تتراوح بين الاستهانة به إلى حد خلعه من بين العلوم وأخرى تصل إلى التعقيد من شأنه إلى حد اعتباره «أصعب» العلوم، فأى تلك الأحكام أحق بأن يتبع، وكلها أحكام تقديرية.

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/623104.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *