علم النفس علم مثير للجدل (1)

للتخصص العلمى قدسية ورهبة تصد عنه العامة وتكاد تغلقه على أهل الاختصاص. ورغم ما تثيره تلك الواقعة من جدل حول مبررات ذلك السياج ومعقوليته بل وشرعيته أيضاً، إلا أن كل ذلك لا يقلل من كون تلك الواقعة حقيقية وقائمة بالفعل، فالعامة حيال كل علم متخصص يكاد ينتظمهم موقف موحد مؤداه أن القول الفصل فى قضايا ذلك العلم مقصور على المتخصصين فيه، ومن الجانب المقابل، فإن أهل الاختصاص بالنسبة لكل علم يكاد ينتظمهم نفس الموقف أيضاً فهم يغلقون الباب على قضايا تخصصهم، ولا يفتحونه إلا بمقدار، ولمن أوتى قدراً معلوما – يحددونه هم – من المعرفة والخبرة فى مجال تخصصهم، ولقد ارتضى الجانبان – العامة وأهل الاختصاص – لأنفسهم هذا الموقف فى العديد من مختلف مجالات التخصص العلمي، حتى أن صفة «عدم التخصص» كادت تصبح تهمة تحرم صاحبها حق المشاركة فى تناول ما يسمى بالقضايا المتخصصة، بل إنها أصبحت تسقط عن تناوله – إذا ما كان قد تم بالفعل – كل ما قد يكون لذلك التناول من قيمة بل ومن شرعية أيضاً. ولا شك أن لهذا الموقف مبررا موضوعيا وهو ازدياد التخصصات العلمية عدداً وعمقا بحيث لم يعد فى وسع أهل اختصاص معين إلا أن يكونوا ضمن العامة حيال التخصصات الأخرى. ولكن لاشك كذلك فى أن هذا الموقف المبرر موضوعيا قد استغل فى كثير من الأحيان استغلالا لا يمت للموضوعية بصلة؛ خاصة فى مجالى علم النفس، والدين. استغله البعض لإبعاد الجماهير عن مناقشة ما يهمها ويمس حياتها من قضايا بتغليف تلك القضايا بصفة التخصص وبالتالى حرمان الجماهير «غير المتخصصة» من مناقشتها، واستغله البعض الآخر فى تشويه واجتزاء الكثير من القضايا المتخصصة بحجة تبسيطها لغير المتخصص.

وعلى أى حال فإن مناقشة هذا الموقف بأبعاده المختلفة ليست رغم أهميتها موضوعنا فى هذا المقام، بل إن ما يعنينا هو أن ذلك الاتساق والتكامل اللذين نلحظهما فى العلاقة بين موقف العامة وأهل الاختصاص حيال الكثير من مجالات التخصص العلمي، نفتقدهما بشكل يكاد يكون صارخاً بالنسبة لما يتعلق بالدين وبالعلوم الإنسانية بعامة وبالنسبة لعلم النفس بوجه خاص. فموقف العامة حيال تلك المجالات يكاد بدرجة أو بأخرى يكون مناقضا تماما لموقف أهل الاختصاص فيها، ومناقضا أيضاً لموقف العامة حيال مجالات التخصص الأخرى. وسوف نقصر حديثنا على علم النفس بالتحديد.

يتخذ العامة من علم النفس موقفا يمكن تلخيصه فى أنهم يعتبرونه مجرد معارف يمكن لأى فرد أن يحصلها دون أن يستلزم ذلك إعدادا خاصاً ولا خبرة متخصصة، بمعنى أن أى فرد يستطيع الإلمام بعلم النفس وحسم قضاياه من خلال وعيه لاتصالاته بالآخرين، بل حتى من خلال استبصاره بنفسه ومشاعره هو فحسب، أو حتى من خلال معلوماته الدينية أو الثقافية العامة، ومؤدى ذلك الموقف من الناحية العلمية أنه ليس ثمة تخصص فى علم النفس، وبالتالى فليس ثمة متخصصون فى علم النفس, والجميع على قدم المساواة حيال قضايا ذلك العلم، دونما قيد سوى رغبة المرء نفسه فى أن يشترك فى الحوار أو يعزف عنه. وبالتالى فإن من تطلق عليهم صفة التخصص فى علم النفس ليسوا سوى قوم أكثر اهتماماً بذلك النوع من القضايا من سواهم وهم لذلك أكثر طرحاً لها. ولا تعنى زيادة اهتمامهم بتلك القضايا أو بطرحهم لها وجود التخصص بالمعنى المتعارف عليه.

وإذا كان العامة يتخذون من علم النفس موقف التبسيط المفرط إلى حد أنهم ينكرون عليه مجرد وجوده كعلم، فإن العديد من أهل الاختصاص فى علم النفس يتخذون من مجال تخصصهم موقف التصعيب المفرط إلى حد أنهم لا يعتبرونه علما فحسب بل يعتبرونه «أصعب» العلوم. و لا يكاد يدور نقاش بين المتخصصين فى علم النفس على كثرة وتعدد اتجاهاتهم وبين غيرهم إلا ويطرح فيه أهل الاختصاص تلك القضية. قد يطرحها أحدهم من قبيل تقرير الواقع من وجهة نظره أحيانا، وقد يطرحها آخر كتبرير لنواقص يراها فى مجال تخصصه أو يخشى أن يراها فيه الآخرون, و قد يطرحها غير هؤلاء كتفسير لما يمكن أن تسفر عنه نتائج البحوث المختلفة من تناقضات. ولكن هؤلاء جميعاً على اختلاف مدارسهم وتنافرها يكادون يجمعون على اعتبار تلك القضية، أى قضية أن علم النفس «أصعب» من بقية العلوم، هى التفسير الوحيد لتأخر انفصال علم النفس عن الفلسفة أو بعبارة أخرى لحداثة عهد علم النفس. ولقد يختلف علماء النفس فى حصرهم لأوجه تلك الصعوبة، أو فى تصنيفهم لتلك الأوجه أو ترتيبهم لها حسب أهميتها، ولكنهم مهما مضت بهم اختلافاتهم لا يخرجون عن التسليم بأن ما أدى إلى تأخر استقلال علم النفس إنما هو صعوبته، وأن تلك الصعوبة أمر لصيق بذلك العلم.

ولعله ينبغى علينا قبل أن نتعرض لقضية ما إذا كان علم النفس «أصعب» من غيره من العلوم، أن نستكمل حديثنا فى مقال قادم إن شاء الله ، بإلقاء بنظرة أكثر تفحصاً على «صعوبات» علم النفس من خلال ما يطرحه المتخصصون فى هذا المجال.

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/620829.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *