ناصر و التنظيم السياسى المستقل

لعل أحدا لا يجادل فيما يحيط بصورة ناصر من جماهيرية بعد مضى سنوات طوال على رحيله فى مثل هذه الأيام. وقد اختلف الكثيرون حول تبرير تلك الجماهيرية إلى حد انزلاق البعض إلى اتهام الجماهير المحبة لعبدالناصر بالغفلة أوالسذاجة، وللحقيقة فإن تلك الجماهيرية لم تكن مثارا لتعجبى منذ رحيله المفاجئ؛ فليس مستغربا مثل ذلك الحنين الجارف إلى عصر يوزع أرض الأغنياء على فقراء الفلاحين، ويضمن عدالة توزيع الطلاب على الجامعات وفقا لمجموعهم و يوفر لكل خريج وظيفة تكفل له حياة لائقة إلى آخر ملامح الصورة الناصرية.

ما استوقف نظرى ومازلت أسعى لتفسيره هو تواضع الحجم الجماهيرى للأحزاب والرموز الناصرية المعاصرة مقارنة بحجم الجماهير الناصرية. ترى لماذا لم تلتف تلك الجماهير حول رمز يمثلهم؟ هل ثمة تناقض خفى بين جوهر الناصرية وفكرة الأحزاب؟ لم يبدأ اهتمام ناصر بالشأن العام من حرب فلسطين، بل شارك وأصيب فى مواجهات الطلبة مع الشرطة قبل ذلك بسنوات؛ ولم يكن بعد ذلك بعيدًا عن التيارات السياسية الحزبية القائمة آنذاك، بل اقترب من أنشطة جماعة الإخوان المسلمين، ومنظمة حدتو الشيوعية، إلى حد أن حسبه كلا التيارين عضوا عاملا ملتزما من أعضائه . ونجح ناصر فى عملية الاستيلاء على السلطة والإطاحة بالنظام الملكى من خلال تشكيله وقيادته لجماعة سرية منظمة تعارض النظام القائم وتسعى لتغييره بالقوة. ولعل ذلك النجاح قد رسخ لديه دروسا ثلاثة خلاصتها: أن عملية التغيير لا تتطلب بالضرورة استطلاع رأى الجماعة أولا، بل يكفى للقائد الاعتماد على حدسه الوطنى فى استنتاج ميل الجماعة، وأنه يستحيل الإطاحة بالنظام دون قيام تنظيم قادر على التنفيذ، وكان ثالث تلك الدروس، ولعله أهمها أن التنظيمات المدنية السرية قد تنجح فى إثارة القلاقل، ولكنها لن تتمكن رغم خطورتها من الإطاحة بالنظام إلا بتوافر قوة مسلحة تعادل القوة المسلحة المتوافرة لدى النظام القائم.

وقد ظلت تلك الدروس الثلاثة ماثلة فى وعى ناصر طيلة حياته، بل استمرت ضاربة بجذورها العميقة فى نظام يوليو، معتبرا أنه على رأس الأخطار الداخلية التى تهدده قيام جماعة منظمة ذات كيان مستقل بدرجة أو بأخرى، بصرف النظر عن طبيعة أفكارها، ويتزايد ذلك الخطر باقتراب تلك الجماعة من القوات المسلحة. ومن ثم كانت البداية هى حل تنظيم الضباط الأحرار ذاته، رغم أنه يدين لعبد الناصر بالولاء، ولكن لم يعد منطقيا أن يظل هو التنظيم القائد للنظام، فقد تجاوز عبدالناصر دوره فى تولى السلطة كزعيم يمثل تنظيم الضباط الأحرار، ليصبح ممارسًا للسلطة كمجسد لإرادة لشعب المصرى مباشرة. ولم يكن غريبًا أيضًا، والأمر كذلك أن تتخذ الثورة قرارًا حاسمًا باجتثاث النظام الحزبى من جذوره، وليس مجرد حل وإلغاء الأحزاب القائمة، فالنظام الحزبى يقوم بداية على مشروعية قيام جماعات منظمة مستقلة عن النظام، فضلا عن أنه يقوم كذلك على التسليم نظريًا على الأقل بمبدأ تداول السلطة، وهو ما لا يمكن إلا أن يكون دعوة صريحة لإمكانية تغيير القيادة الثورية القائمة. وإذا كان اجتثاث النظام الحزبى العلنى أمرا ميسورًا نسبيًا، فإن سحق التنظيمات الحزبية السرية كان أمرًا يتطلب آلية أشد قسوة وحسمًا. إنها جماعات منظمة متمرسة على السرية، خبيرة بفنيات تحريك الجماهير، وآليات التعامل مع أساليب القهر السلطوى الذى تعرضت له طويلا فى ظل النظام الملكى البائد، وهى إلى جانب ذلك تسعى للامتداد داخل تشكيلات الجيش، ولم يكن بد إذن من استحداث أساليب لسحقها تفوق تلك التى مارسها النظام الملكى البائد.

كان حتما بحكم ممارساته السياسية أن يصبح ناصر معاديا للجماعة المستقلة عن النظام بصرف النظر عن توجهها السياسي، دون أن يتعارض ذلك مع قبوله للفكر الفردى المعارض؛ فهناك من المثقفين أصحاب الفكر المعلن المعارض ممن لم تصبهم عصا ناصر الغليظة؛ ومن ناحية أخرى فثمة من انهالت عليهم تلك العصا، رغم أن فكرهم لا يحمل شبهة اختلاف عن فكر النظام.

لم يكن ناصر معاديا للرأى الآخر على إطلاقه، بل كان معاديا بالتحديد لذلك الرأى إذا ما توافر له شرط التنظيم الجماعي، أما إذا ما ظل رأيا فرديا مهما تكن درجة اختلافه مع النظام فلا بأس من سماعه بل ولا بأس فى أحيان كثيرة من السماح بإعلانه، ولعلنا لم ننس حوار عبدالناصر العلنى مع خالد محمد خالد فى اجتماعات اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية فى نوفمبر 1961، ذلك الحوار الذى وصلتنا أصداؤه فى معتقلات الواحات والقلعة وأوردى أبو زعبل والفيوم، وكان من بيننا من يؤيد عبد الناصر ربما بأكثر من تأييد خالد محمد خالد.

خلاصة القول أن عبدالناصر لم يكن ذلك الدكتاتور الكاريكاتيرى الفج الذى يستشيط غضبًا إذا ما سمع رأيًا مخالفًا فيطيح برأس صاحبه. إن الفكر المخالف لم يكن يمثل لدى ناصر خطرا فى حد ذاته، ولكن مكمن الخطر بالنسبة له إنما يتمثل فى التنظيم. إنه الدرس الذى استخلصه ناصر، و استوعب مفرداته بعمق من واقع تاريخه السياسى قبل أن تعرفه الجماهير.

ترى هل لهذا السبب يرجع نفور الجماهير الناصرية من الانضواء تحت لواء حزب ناصري؟ والسؤال الأهم ترى هل ابتعدنا عن جوهر النظام الناصرى كثيرا فيما يتعلق بتلك الجزئية تحديدا؟

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/616499.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *