قامت الحضارة البشرية على قدرة البشر على تطويع الواقع بحيث يصبح أكثر ملاءمة لاحتياجاتهم.؛ ويتحقق ذلك من خلال الرصد الموضوعى لتفاصيل ذلك الواقع سعيا لفهم القوانين التى تحكمه، ومن ثم القدرة على تطويعه؛ ويتجسد ذلك من حولنا فى العديد من الاختراعات والمنجزات من أجهزة التكييف إلى أجهزة الاتصال إلى العقاقير والسدود إلى آخر قائمة لا يمكن حصرها.
ولا تقتصر ضرورة تطويع الواقع على الواقع المادى فحسب؛ بل تمتد إلى تطويع الواقع الإنسانى بأوجهه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ وإذا كان التوصيف الموضوعى للواقع المادى شرطا لتطويعه؛ فإنه وبنفس الدرجة شرط لتطويع الواقع الإنساني. إلا أن الرصد الموضوعى للواقع الإنسانى خاصة بالنسبة لما نعتبره سلبيا ليس بالأمر اليسير؛ بل إننا قد لا نبالغ كثيرا إذا قلنا إن ثمة ميلا راسخ الجذور لدينا يدفعنا إلى تحاشى رؤية ما نراه مهددا لوجودنا أو حتى متناقضا مع تصورنا لأنفسنا و للآخرين.
ولكن ما يستلفت النظر هو أن العديد من الجماعات يميلون إلى استخدام تلك الآلية الطفولية القديمة؛ خاصة إذا ما ساد الجماعة إحساس بأنها الأضعف وأنها مهددة بالإفناء والتذويب, وأنها محاطة بعالم يكرهها ويستقوى عليها وبترصدها, ومن ثم يتملكها الذعر؛ ولا يجد القائمون على شئون مثل تلك الجماعة سبيلا سوى إحاطة جماعتهم بأسوار سميكة تحجب عن أبنائهم رؤية ما يؤلمهم أو يثير ذعرهم أو يذكرهم بمجرد وجود مصدر التهديد، وإذا استحالت إقامة تلك الأسوار ماديا أو تشريعيا, فلتكن أسوارا نفسية شاهقة الارتفاع تضمن إخفاء مصدر التهديد عن وعى أبناء الجماعة. وقد يبدو لأصحاب تلك الأسوار أنهم بإحكامهم إقامتها كفلوا لأبنائهم قدرا من السعادة وكفلوا لأنفسهم قدرا من الهدوء. ولكن ذلك كله ليس صحيحا؛ فخلف تلك السعادة الموهومة والهدوء المؤقت تعتمل داخل نفوس الأبناء تيارات هادرة من الغموض. ترى ماذا تخفى تلك الأسوار وراءها؟ هل ثمة خطر حقيقي؟ أم أنها مجرد خدعة يخدعوننا بها؟
ولننظر على سبيل المثال لا الحصر إلى تاريخ مواجهة الأمة العربية للنشاط الصهيونى على أرض فلسطين. تلك المواجهة التى أسفرت جولتها الأولى عام 1948 عن هزيمة مروعة للجيوش العربية وقيام دولة إسرائيل. كان ما حدث يمثل مصدرا لألم فظيع للوعى العربي, وكان المتوقع أن يشرع أولو الأمر العرب فى إعداد شعوبهم لمواجهة الحقيقة كخطوة ضرورية للبحث فى سبل التعامل معها؛ واستيعاب ومواجهة ذلك الواقع الجديد وما تتطلبه تلك المواجهة من تقص للأسباب ومحاسبة للمسئولين واستشراف للمستقبل وكلها أمور قاسية مؤلمة؛ ولكننا آثرنا لأسباب لم تعد خافية أن نتمسك بتلك الآلية الطفولية السحرية القديمة والمريحة: فلنخف إسرائيل عن وعينا, ولنصادر الخرائط التى تشير إلى وجود إسرائيل, ولنمح من كتاباتنا وخرائطنا كلمة إسرائيل, ولنمنع الإشارة إلى الشيكل فى قائمة أسعار العملات باعتباره عملة نقدية، وظللنا هكذا حتى وقعت كارثة يونيو 1967. ومع بداية الاستعداد الفعلى العلمى للمواجهة ساد خطابنا السياسى تعبير «العدو الإسرائيلي» وبدأنا نسمح بشعارات «اعرف عدوك» وبدأنا نقرأ كتبا تحمل عناوين مثل «نظرة إلى الخطر» و«تجسيد الوهم» وما إلى ذلك. لقد أصبحنا نواجه دولة معادية محتلة قائمة بالفعل وتصاعدت مواجهتنا الفعلية لها إلى حرب أكتوبر 1973 ومازال الصراع العربى الإسرائيلى قائما ولكن بشكل واقعي.
لقد أصبحت تربطنا بإسرائيل معاهدة سلام، وهى ليست بحال كتابا مقدسا أزليا أبديا، بل هى شأنها شأن مثيلاتها من المعاهدات لا يمكن أن تحظى رغم الالتزام الرسمى بإجماع الشعوب التى وقعتها حكوماتهم باسمها؛ بل يظل الخلاف حولها قائما بل وضروريا وصحيا، وهذا هو الحال بالفعل سواء فى مصر أو فى إسرائيل؛
وليس من شك أن تصرفات حكومات إسرائيل المتعاقبة حيال الشعب الفلسطينى فضلا عن استمرار احتلالها لأراض عربية كفيل بأن يثير لدينا غضبا مشروعا؛ فإذا ما أضفنا لذلك حقيقة أن ثمة سلاحا ذريا على حدودنا تحول غضبنا المشروع إلى قلق له ما يبرره موضوعيا.
وكان المتوقع علميا أن يتحول غضبنا وقلقنا إلى مزيد من الرصد الموضوعى للواقع إذا كنا حقا نريد تطويعه. ولا أشك لحظة فى أن لدينا على مستوى المسئولية من يكرسون أنفسهم لأداء تلك المهمة؛ وليس مطلوبا ولا ممكنا مكاشفة الجميع بكل التفاصيل؛ ولكن لا علاقة لذلك بمحاولة الإخفاء الطفولية لوجود إسرائيل عن الوعى الجماهيرى المصري.
خلاصة القول إن وجود دولة تمتلك سلاحا ذريا على حدودنا بصرف النظر عن علاقتنا بها لا ينبغى أن يثير ذعرنا بقدر ما يثير لدينا ضرورة الوعى الموضوعى بتفاصيل المكونات التاريخية والاجتماعية والنفسية لتلك الدولة.