أضواء حمراء من بنى مزار إلى محاكمة الأفكار

لعل مهمة المشتغل بعلم النفس السياسى توجب عليه أن يوظف علمه لبث ما يشبه قرون الاستشعار السياسية؛ بحيث يستطيع أن يتحسس نذر الخطر قبل وقوعها وكذلك بشائر الخير قبل قدومها؛ والأولى بالاهتمام فيما نرى هى نذر الخطر؛ حيث إن للخير آباء كثيرين يودون لو كانوا أول المبشرين به حتى لو كان سرابا؛ أما المنذرون بالخطر فكثيرا ما تراودهم الرغبة فى الإحجام حتى لا يكونوا نذير شؤم. أما العلماء، فبقدر ما يتاح لهم من معلومات واقعية وخبرات علمية وما يلتزمون به من أمانة مهنية أخلاقية فلا ينبغى لهم أن يجدوا حرجا فى إطلاق الضوء الأحمر محذرين من مخاطر بدت بوادرها حتى إذا لم تكن قد تفاقمت بعد.

لقد تصدر المشير السيسى الصورة التاريخية لرموز التغيير الذى حدث فى 30 يونيو 2013 باعتباره القائد العام للقوات المسلحة آنذاك؛ محاطا بأربعة عشر شخصية لعل أكثرها دلالة فى هذا المقام؛ فضيلة شيخ الجامع الأزهر؛ وقداسة البابا تواضروس؛ فضلا عن عدد من ممثلى أطياف المجتمع السياسي.

ومن موقعى كمواطن مصرى أستطيع أن أرى كما يرى غيرى العديد من أخطار قائمة بالفعل فى مجالى الاقتصاد والإرهاب وغيرهما مما لا يمكن اعتبارها مجرد نذر منبئة بقدر ماهى واقع قائم تجرى مواجهته والتعامل معه؛ إلا أنه من موقعى المتواضع كمتخصص مصرى فى علم النفس السياسي؛ ألمح نذرا لخطرين يمسان الأعمدة الرئيسية للنظام السياسى الذى قام بعد 30 يونيو 2013 معلنا أنه استمرار لثورة 25 يناير 2011.

الخطر الأول: خطر تجدد أحداث الفتنة الطائفية

ثمة ومضات حمراء تنبعث من محافظة المنيا تعيد إلى ذاكرتنا أحداث الفتنة الطائفية التى كدنا نبرأ من جراحها؛ خاصة بعد تصدر فضيلة شيخ الأزهر وقداسة البابا مشهد 30 يونيو؛ وبعد أن قدمت محافظة المنيا تحديدا أكبر عدد من ضحايا المذبحة الوحشية التى قامت بها منظمة داعش منذ عام كامل حيث ذبح جلادوها 21 مواطنا مصريا. فى هذا التوقيت تحديدا تتردد الأنباء عن صدور قرار من وزارة التربية والتعليم بتعيين مواطنة مصرية مديرة لإحدى مدارس بنى مزار بعد مسابقة أجرتها الوزارة؛ ويتم نشر صورة لمجموعة من الفتيات المحجبات يعتصمن فى المدرسة تعبيرا عن رفضهن للقرار مما يعنى أن الطالبات المسلمات يعترضن على القرار؛ وتتراجع الوزارة عن قرارها لتصدر قرارا جديدا يقضى بتعديل قرارها السابق وتعيين هذه المواطنة مديرة لمدرسة أخرى فى نفس المدينة؛ فإذا بطلاب تلك المدرسة يعتصمون احتجاجا أيضا؛ وأخيرا تكشف الوزارة أو تكتشف أن هذه السيدة قد تسببت فى بعض المشكلات والمخالفات الإدارية خلال عملها السابق منذ عام 2010، وأنه ليس ثمة بعد طائفى فى الموضوع وأن الملف بكامله محال للتحقيق؛ ولسنا فى حاجة للخوض فى مزيد من التفاصيل، فقد تحقق الهدف من الرسالة الموجهة تحديدا لأصحاب مشهد 30 يونيو وفى مقدمتهم الرئيس عبدالفتاح السيسي، ومضمون الرسالة واضح لا يحتاج إلى بيان: «مخطئ من يظن أن شيئا قد تغير، ها نحن كما نحن قاعدون متربصون متعصبون فانظروا ما أنتم فاعلون»

الخطر الثاني: تنشيط ما يعرف بقانون «ازدراء الأديان» مضت سنوات طوال على صدور قانون ازدراء الأديان؛ وفى توقيت اقتراب الانتهاء من الخطوة الأخيرة من خريطة الطريق تنبعث الومضات الحمراء. ثمة من يتقدمون ببلاغات للنائب العام لتحريك الدعوى الجنائية بتهمة ازدراء الأديان. ولعله من الملفت للنظر أن أول وميض أحمر ينبعث أيضا من المنيا ومن بنى مزار تحديدا حيث عثر على شريحة محمول لمدرس مسيحى تحمل تسجيلا تم تصويره خلال رحلة طلابية عام 2014استغرق نصف دقيقة لأربعة طلاب بالمرحلة الثانوية يؤدون مشهدا تمثيليا يقومون فيه بأداء حركات ركوع وسجود إسلامية؛ واعتبر من عثروا على الشريحة أن المشهد يتضمن ازدراء للأديان؛ وتم تهجير المدرس صاحب الواقعة إلى خارج القرية؛ كما أصدرت المحكمة المختصة حكمها على الطلاب بالسجن خمس سنوات. وفى نفس التوقيت تقريبا وبنفس التهمة يصدر الحكم بسجن الباحث الإسلامى إسلام بحيرى وكذلك الكاتبة فاطمة ناعوت. الرسالة هذه المرة أيضا موجهة إلى رموز مشهد 30 يونيو: الرئيس السيسى وفضيلة شيخ الأزهر وقداسة البابا تواضروس وبالإضافة إليهم مجلس النواب الذى انبثق من دستور ثورة يونيو الذى يضمن بوضوح قاطع حرية التعبير ويدين بنفس الوضوح القاطع أى تمييز بين المواطنين بسبب عقائدهم. ونص الرسالة متكرر «مخطئ من يظن أن شيئا قد تغير، ها نحن كما نحن قاعدون متربصون متعصبون فانظروا ما أنتم فاعلون»

ترى هل تلقت الأطراف المعنية تلك الرسائل الموجهة إليهم؟ هل لمحوا الوميض الأحمر الذى تبعث به؟ ترى حقا ماذا هم فاعلون.

هل يأمرون الشرطة بتنفيذ القانون بالقوة فتسقط الضحايا وتزداد النيران لهيبا؟ أم يخضعون لأبنائنا وبناتنا الغاضبين المحتجين فنعود من جديد إلى أتون الفتن الطائفية؟ هل نمضى فى الإلحاح على السيد الرئيس أن يتدخل متجاوزا المؤسسات ونصوص الدستور؟

أم أن الأفضل أن تتوجه الرسالة إلى البرلمان ليتحرك صوب إلغاء ذلك القانون، وأن يتوجه المشتغلون بالعلوم الإنسانية بصحبة رجال الأزهر والكنيسة لدراسة المنابع الفكرية التى مازال أبناؤنا وبناتنا ينهلون منها؟

خلاصة القول

أرى تحت الرماد وميض جمر، ويوشك أن يكون له ضرام. فإن النار بالعودين تُذكى، وإن الحرب مبدؤها كلام. فإن لم يطفها عقلاء قوم، يكون وقودها جثث وهام.

ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *