أهمية التصويب على الهدف الصحيح

كثيرا ما نشاهد فى الأفلام تدريبا للجنود على دقة التصويب؛ حيث توضع أمامهم لوحة تنشين يعتبرونها هدفا يصوبون عليه طلقاتهم، ولكن المدرب والجنود يعلمون أنه هدف مصطنع؛ ولذلك يبذل المدربون جهدا كبيرا لإثارة حماس المتدربين ودفعهم لتخيل أنهم حيال عدو حقيقى يصوبون عليه طلقاتهم؛ وقد ترتفع صرخاتهم مهللين عندما تصيب طلقاتهم ذلك العدو الوهمي.

ويفيض تراث علم النفس السياسى بالعديد من آليات الحرب النفسية، وتصل تلك الآليات إلى حد اصطناع هدف وهمى يجتذب الانتباه بعيدا عن الهدف أو العدو الحقيقي؛ ولا ينفى ذلك حقيقة أننا كثيرا ما نصوب بكل الثقة وحسن النية على هدف وهمى لم يصطنعه لنا أحد بل اصطنعناه بأنفسنا، دون أن نعرف أن طلقاتنا سوف تطيش حتما إذا لم ترتد إلينا فتصيبنا. وقد يكون ما يدفعنا إلى ذلك نفور طبيعى من بذل جهد قد يكون شاقا لاكتشاف مكمن الداء الحقيقى الذى قد يكون متخفيا تحت ثياب بريئة جذابة؛ ونكون آنذاك أشبه بمن يبحث تحت مصباح الإضاءة عن مفتاح فقده فى الظلام.

شهداؤنا من رجال الجيش والشرطة والمدنيين يتساقطون بتفجيرات ورصاصات تطلق عليهم ممن يدينون بديننا ويصرخون أنهم إنما يرتكبون ما يرتكبون نصرة لديننا الذى تقاعست عن نصرته مؤسساتنا الحكومية والشعبية وكذلك الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف. رصاصات الجيش والشرطة تعرف حتما طريقها الصحيح حيث لا غموض يكتنف هويتهم وإن اكتنف ولو إلى حين مخابئهم وطرق إمداداتهم. ولكن ماذا عن كلماتنا أو رصاصاتنا نحن المفكرين.

يبدو للأسف أن كثيرا جدا من رصاصاتنا الفكرية تتجه إلى أهداف غير صحيحة لنكتشف أحيانا أن الإرهابيين يستهدفون بعضها أيضا وربما بشراسة أشد. إننا نتجه إلى أهداف مرئية واضحة ربما لمجرد أنها واضحة. لقد اتجهت رصاصاتنا الفكرية نحو قنوات التليفزيون التى تبث فكرا إسلاميا متطرفا؛ وإلى مكتبات مدارسنا التى لا يكاد يرتادها أحد لتنقيتها من الكتب الدينية المتطرفة، وإلى مناهج التعليم فى الأزهر، وإلى انتشار ظواهر الحجاب والنقاب داعين السلطات للتدخل لتحجيمها؛ مرجعين الأمر كله إلى تسلل فكرى وهابى من دول الثراء البترولى عبر العمالة المصرية هناك. ولعلنا لو راجعنا تاريخ وانتشار العمليات الإرهابية فى بلادنا لاكتشفنا عددا من الحقائق لعلها تدفعنا إلى إعادة التفكير فى طريقة تحديدنا للمنبع الفكرى الرئيسى للإرهاب: لقد تم اغتيال أحمد ماهر(1945) والقاضى الخازندار (1948) والنقراشى (1950) وكلها جرائم وقعت قبل ظهور الثروة البترولية وتدفق العمالة المصرية إلى دول الخليج؛ ولعل ذلك يدفعنا إلى مراجعة شجاعة لفكرة أن الإرهاب لدينا وارد بكامله من خارج حدودنا.

يكشف تقصى تاريخ العمليات الإرهابية أنها كانت سابقة بعقود على ظهور القنوات التليفزيونية الدينية بل على اكتشاف جهاز التليفزيون، فضلا عن اكتشاف شبكات التواصل الاجتماعى التى يرى فيها الكثيرون مرتعا للدعوة للإرهاب. ولعل ذلك يدفعنا إلى تبين احتمال أننا نخلط بين السبب والوسيلة والنتيجة؛ فوسائل التواصل المباشرة والجماهيرية والإلكترونية ليست سوى وسائل تيسر وتساعد ولكنها لا تنشئ إرهابا.

تكشف الإحصاءات الرقمية للتخصصات العلمية لمن أدينوا بتهمة الإرهاب غلبة التخصصات العلمية (الطب والهندسة والعلوم) رغم عدم اقتصار القوائم على تلك التخصصات وحدها، ولعل ذلك يدفعنا إلى عدم تضخيم تأثير نوعية المقرر الدراسى فى بلادنا على تنمية الميل للإرهاب. تكشف وثائق التنظيمات الإرهابية المنشورة والمتاحة، أنهم لا ينظرون إلى النظام السعودى باعتباره النظام النموذجى الذى يودون استنساخه، ولا يعتبرون الأزهر مرجعية لهم، بل و لا يكنون احتراما كبيرا للأزهر ولا لشيخه خاصة بعد وقوفه علنا فى صدارة مشهد 30 يونيو؛ ولعل ذلك كله يدفعنا إلى مراجعة القول بأن منبع الإرهاب يكمن فى الأزهر ومقرراته التى لا نناقش مدى قصورها عن مجاراة الواقع.

تكشف الإحصاءات أن الإرهابيين لا يمثلون بحال غالبية المنتمين لأى تخصص علمي؛ ولعل ذلك يدفعنا إلى البحث عن مصدر يتجاوز المناهج الدراسية ينهل منه فريق بعينه من الطلاب دون غيرهم لتتشكل هوياتهم الإرهابية.

كان انتشار النقاب والحجاب تاليا بعقود لبزوغ العمليات الإرهابية، ولم يكن انصياعا لقرارات صدرت من الأزهر أو من السلطة؛ وإن وجدت ترحيبا صامتا من الجهتين؛ وتشير الدراسات المتاحة إلى أن المصريين يتخذون موقفا انتقائيا من توجيهات المؤسسات الدينية والحكومية؛ ولعل ذلك يرجح أن الحجاب والنقاب لم ينتشرا بقرار بل بدعوة صادفت هوى فى المناخ السائد آنذاك؛ ومن ثم فإن تدخل السلطة فى الأمر قد يحدث أثرا عكسيا.

وفى النهاية فللقارئ أن يتساءل وبحق، ترى وما الحل؟ ما هو المنبع الرئيسى للإرهاب لكى تتوجه إليه طلقاتنا الفكرية دون أن تجتذبها لوحات وهمية؟ وأود أن أصارح القارئ بأن الكلمات السابقة لم تكن سوى مجرد محاولة أولية لإعادة التفكير، مع التسليم بأن المهمة المطلوبة تتجاوز قدرة أى باحث فرد مهما يكن صدق نياته؛ ومهما تكن أهمية تخصصه؛ بل إن التوصل إلى تحديد علمى موضوعى للمنبع الرئيسى للإرهاب فى بلادنا ليس بالمهمة السهلة حتى لو توافرت مجموعة متكاملة من العلماء إلا إذا تم رفع العقبات البيروقراطية الحكومية التى تقيد حرية الباحث العلمى فى الحصول على المعلومات المطلوبة سواء كانت متمثلة فى وثائق أو إحصاءات أو استطلاعات ميدانية. وإلى أن يتحقق ذلك فليس لنا سوى الاعتماد على إحصاءات وبيانات أجنبية، أو على حدس قد يصيب وقد يخيب

ولله الأمر من قبل ومن بعد

 

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/488982.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *