اتصل بى الصديق الدكتور إيمان يحيى ليستأذننى فى استضافة الصحفية الروائية العراقية إنعام كجه جى التى تعد فيلما تسجيليا عن الصديق الراحل محجوب عمر. وبالفعل شرفت باستقبالهما بمنزلى فى أواخر أكتوبر 2015. واكتشفت أن تعرفها على محجوب كان من خلال قراءتها لمقال متميز كتبه عنه الدكتور إيمان يحيى الذى عرف محجوب عن قرب خلال حقبة وجود منظمة التحرير الفلسطينية فى لبنان. وتلقيت مؤخرا دعوة لمشاهدة الفيلم فى قاعة مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامى بالقاهرة فى السابعة من مساء السبت 14 مايو 2016. وهى المرة الأولى التى أتعرف فيها على ذلك المركز، وتوقعت أن يكون الحضور عددا قليلا ممن بقى من أصدقاء محجوب؛ فقد كان اليوم قائظ الحرارة فضلا عن عزوف الكثيرين عن مشاهدة مثل هذا النوع من الأفلام التسجيلية؛ وفوجئت باكتظاظ القاعة بالمشاهدين وكثير منهم من الشابات والشبان.
كان عنوان الفيلم «محجوب خدام اللطافة»؛ وقبل عرض الفيلم قال الدكتور إيمان يحيى ان الفيلم لا يتجه إلى أصدقاء محجوب الذين عرفوا الأصل بل هو رسالة إلى من لم يعرفونه وخاصة من جيل الشباب. ولقد حاولت قراءة الرسالة التى لخصتها مخرجة الفيلم ببراعة فى العنوان الذى اختارته له «خدام اللطافة». إنها الصفة التى كان محجوب يحب أن يصف نفسه بها بصيغة المفرد أحيانا وأحيانا بصيغة الجمع «إحنا خدامين اللطافة», ترى من هى تلك اللطافة التى يفخر محجوب بأنه من خدامها؟
الاسم الحقيقى لمحجوب هو رءوف نظمى ميخائيل؛ وهو بحكم التعليم والثقافة بل والطبقة الاقتصادية واحد منا أبناء النخبة المصرية التى تنتمى للطبقة المتوسطة الذين نأنف أن نكون «خدامين» وقد ننظر للخدامين بشفقة أو بتعاطف أحيانا ولكنا نشعر دائما أننا نختلف عنهم. لقد اختار محجوب لنفسه أن يكون خداما للطافة؛ وقد كانت علاقتنا الوثيقة تسمح لى بتبين المعنى المقصود والذى ترجمه عمليا وسلوكيا من خلال علاقاته بالآخرين: إنه كان يحذر نفسه ويحذر من يحيطون به من السلوك «النخبوى». لقد عرض الفيلم فى إشارة سريعة للوحة بيضاء يضعها محجوب خلف مكتبه فى مركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير ببيروت ليكتب عليها ما يعن له من شعارات وحكم وكان على رأسها تعريف بنفسه «أنا جمهر مفرد جمهور مفرد جماهير». نحن أبناء النخبة كثيرا ما نتحدث بإجلال عن الجماهير التى نعبر عنها؛ وعن المطالب الجماهيرية؛ ولكنا فى خضم حماسنا ننسى «جمهر» ذلك الفرد البسيط الذى يصنع مع أمثاله صورة الجماهير فى عقولنا ووعينا. كان محجوب عمر يترجم تلك الشعارات عمليا حين يتصرف باعتباره مجرد «جمهر» فيتطوع لأداء أحقر الأعمال التى نأنف منها نحن أبناء النخبة رغم أهميتها الحيوية ولا يقدم عليها إلا الخدم مجبرون أو مضطرون. كان يصر فى السجون والمعتقلات ومعسكرات التعذيب أن يتولى مثلا مهمة تنظيف دورات المياه والتخلص من مخلفات الزملاء إلى جانب مهمات الكنس والمسح إلى آخره. واستمر فى اتباع نفس الأسلوب حين تم تعيينه بعد الإفراج عنه طبيبا فى مستشفى دمياط حيث أطلق عليه ربما على سبيل التهكم «الدكتور اللى بيعد الليمون» وذلك حين انتابه الشك فى أن متعهد الأغذية يتواطأ مع بعض العاملين فى سرقة أغذية المرضى؛ فطلب من المتعهد أن يقوم بتسليم الليمون بالعدد؛ وحين تباطأ المتعهد جلس الدكتور رءوف على الأرض وأمامه شوال الليمون يعد الليمون بنفسه. وحين تولى محجوب مسئولية واحدة من العيادات التى أنشأتها منظمة فتح فى الأردن؛ جاءت سيدة بدوية مريضة تلتمس العلاج؛ وفوجئت عند وصولها برجل مشمر عن ساقيه منحنيا يمسح أرضية العيادة. قالت «أريد مقابلة الحكيم» فرد عليها خدام اللطافة «حالا دقائق» وانهمك فى عمله حتى انتهى من مسح الأرضية وتجفيفها ثم غاب قليلا ليعود مرتديا البالطو الأبيض معلقا حول رقبته السماعات الطبية؛ قائلا للسيدة متسائلا «لعله خير إن شاء الله» وصرخت السيدة تستنجد بالحكيم ليخلصها من ذلك «الخدام» الذى ينتحل صفته؛ ولتكتشف فى النهاية أنها أمام الدكتور محجوب «خدام اللطافة».تلك هى الرسالة التى جسدها محجوب خلال حياته؛ وجسدها عنوان الفيلم قبل تفاصيله. رسالة إلى أجيال جديدة من النخب المصرية والعربية تحذرهم من تكرار خطايانا نحن أبناء النخب القديمة من أصحاب الشعر الأبيض. لقد كنا مخلصين غاية الإخلاص لمصالح جماهير شعبنا. مستعدين بكل التجرد للتضحية بحياتنا فى سبيل تلك الجماهير. ولكننا لم نعزف النغمة الصحيحة التى يمكن أن تسمعها تلك الجماهير والتى تبدأ بأن نكون فعلا لا قولا «خدامين اللطافة». أن نحترم أفكار تلك الجماهير مهما كانت بساطتها ولا أقول «تخلفها و رجعيتها» أن نبدأ من حيث هم وليس من حيث ينبغى أن يكونوا. أن نقدم لهم ما نستطيع من خدمات حياتية مهما كانت متواضعة ولا نكتفى بتقديم أفكار مهما كانت لامعة ومخلصة. أن نهتم بجمهر مفرد جماهير باعتبار أن لذلك الجمهر الفرد وحده وجودا ماديا حقيقيا فى حين أن الجمهور والجماهير صياغات نظرية لا يمكن تجسيدها دون الاقتراب من المكون الأساسى لها. استغرق الفيلم ساعة كاملة استمتعنا خلالها بعرض ماهر للقطات من حياة محجوب عمر الطبيب المصرى القادم من أعماق الصعيد ليلتحم مع الفدائيين الفلسطينيين ولتذوب هويته بينهم حتى أن ابنة صديقنا الراحل السيد هانى فحص قالت فى شهادتها المسجلة فى الفيلم انها لم تكتشف إلا بعد فترة طويلة أن محجوب عمر صديق والدها المرجع الشيعى مسيحى فزادها ذلك إعجابا به.