لقد ظل تجميع البشر تحت قيادة مركزية تستند إلى مرجعية فكرية واحدة حلما يداعب الفكر الإنسانى منذ بداية التاريخ و لم يكف البشر عن محاولة تجسيد هذا الحلم حتى يومنا هذا سعيا لخلق عالم مثالى نموذجى ينعم البشر فى ظله إذا ما تحقق بأقصى قدر من الرفاهة و السعادة، بل ويتحدثون لغة واحدة.
و يشهد عالمنا المعاصر تزايدا ملحوظا لجماعات ترفع رايات ذلك الحلم القديم بتوحيد العالم، ولعل الأبرز ظهورا من بين تلك الجماعات فى عالمنا المعاصر تلك التى تبنت هدفا محددا منذ انهيار دولة الخلافة العثمانية يتمثل فى السعى إلى إعادة إقامة «الدولة الإسلامية» التى قد تختلف الرؤى و تتباين حول تفاصيل ملامحها؛ ولكنها تتفق على كونها دولة دينية إسلامية عقائدية عالمية ذات قيادة مركزية مرجعيتها الكتاب والسنة.
ولعله من اللافت أن نموذج الدولة العقائدية لم يقتصر تاريخيا على المسلمين دون غيرهم فقد عرفه المسيحيون فى العصور الوسطى ومازالت بقايا هذا النموذج قائمة فى دولة الفاتيكان؛ وعلى حدودنا تقوم دولة إسرائيل التى أعلنتها الأمم المتحدة فى قرار التقسيم باعتبارها «دولة لليهود» وهو تعبير لا تخفى دلالته، وبجوارنا تقوم دولة إيران ذات المرجعية الدينية الإسلامية الشيعية؛ كما أن ذلك النموذج للدولة العقائدية لم يقتصر على أصحاب الديانات السماوية وحدهم بل شمل نموذجا بارزا فى التاريخ الحديث يقوم على النقيض تماما من نماذج الدولة العقائدية الدينية؛ وهو نموذج «الدولة الماركسية».
ورغم أن التباين بين المنطلقات الفكرية لنماذج الدول العقائدية الدينية، ونموذج الدولة العقائدية الماركسية غنى عن البيان؛ إلا أن أوجه الشبه بل التطابق قد تغيب عنا أحيانا؛ ولعله من الضرورى إلقاء الضوء على أوجه الشبه لكى ننتبه إلى أن بعض الحركات الثورية المعاصرة التى تقدم نفسها باعتبارها النقيض للدولة الدينية تتبنى العديد من المنطلقات النظرية لتلك الدولة الدينية التى تطرح نفسها نقيضا لها.
أولا: العالمية
شهد تاريخنا الإسلامى منذ حقبة مبكرة جدلا فكريا شديدا حول تحديد معالم هوية المسلم الحق التى تميز بينه و بين غيره: ترى هل يكفى الاقتناع و التسليم أم أنه لا بد من بيعة و جهاد و دولة و خليفة؟ هل يمكن الاكتفاء بإقامة دولة إسلامية فى حدود قطر واحد فحسب؟ أم أنه ينبغى السعى لتشمل مظلة الخلافة البشر جميعا؟ و هل الانتماء الإسلامى ينبغى أن يتخطى حدود الانتماء القومي؟ واستند المتجادلون جميعا إلى فهمهم أو تأويلهم لنصوص الكتاب الكريم و السنة النبوية الشريفة.
و كان الأمر شبيها بذلك فيما يتعلق بالماركسية السوفيتية التى انطلقت من أرضية مناقضة للديانات السماوية، إذ واجهت أسئلة شبيهة: ترى هل يكفى الاقتناع بالفكر الماركسى أم أنه لا بد من التنظيم الشيوعى و السعى إلى السلطة؟ هل يمكن إقامة هذه السلطة فى حدود دولة واحدة أم المطلوب استمرار الثورة إلى أن ينجح عمال العالم فى إقامة دولتهم العالمية؟ هل الالتزام الماركسى ينبغى أن يتخطى حدود الالتزام القومي؟ و استند الجميع إلى فهمهم و تأويلهم لما قال به المؤسسون الكبار للنظرية.
ثانيا: وحدة مركز القيادة
أقام الماركسيون تنظيما أمميا عالميا اتخذ من موسكو مركزا لقيادة عملية التوحيد، و كان منطقيا أن تكون للكريملين الكلمة العليا فى ذلك التنظيم الأممي، و فى اختيار قادته و ممثليه فى العالم؛ و لم يكن ذلك بالأمر المستغرب باعتبار أن الانتماء للماركسية يعلو غيره من الانتماءات القومية «الشوفينية».وبالمقابل فقد تمثل السعى الإسلامى فى إقامة دولة الخلافة الإسلامية التى تنقلت مراكز قيادتها بين مكة و دمشق و بغداد و القاهرة إلى آخره، ولم يكن حكام أقاليم الخلافة الإسلامية من مسلمى الأقاليم المفتوحة طوعا أو غصبا بل من أصحاب الفتح عربا كانوا أو أتراكا، و كان ذلك أمرا لافتا فلو سلمنا بأن الانتماء للعقيدة الإسلامية يعلو على غيره من الانتماءات القومية «الشعوبية» لما كان هناك ما يمنع شرعا من أن يتولى ولاية مصر مثلا مصرى مسلم أو على الأصح مسلم مصري.
ثالثا: الاتهامات بالزندقة و المراجعة
فى ظل الحرص على وحدة الدولة العالمية فكرا وممارسة لم يكن بد من التصدى بمنتهى الشدة التى تصل إلى حد القتل لمن يهدد تلك الوحدة، ومن ثم فقد انهالت الإدانات بالمراجعة والردة والخيانة بل و العمالة على كل من يخرج على التأويل الرسمى السوفيتى المعتمد للنظرية الماركسية محاولا تفتيت وحدة الصف الشيوعي، كما انهالت إدانات مماثلة بالزندقة و الردة و التحريف على كل من يخرج على التأويل المعتمد من مقر الخلافة للقرآن الكريم و السنة المطهرة. و طالت تلك الاتهامات من كانوا يحتلون مراكز الصدارة فى المشهد الماركسى من كاوتسكى و تروتسكى إلى ماوتسى تونج إلى تيتو و جارودي، و لم تختلف تلك الاتهامات فى جوهرها كثيرا عن تلك التى وجهت إلى العديد من رموز الفكر و قادة العمل الإسلامي. وللحديث بقية