يمر تعاطف الجمهور مع المتطرفين عبر الاقتناع برسائلهم الدعوية التى تكفل أرضية فكرية للممارسات الإرهابية، ولذلك يصبح السؤال لماذا يصدقونهم قبل أن نتساءل لماذا يتعاطفون معهم، وأيضا قبل أن نتساءل عن مصدر أفكارهم.
تفيض دراسات علم النفس الإعلامى بما يكشف عن أسس مصداقية الداعية، فأول ما يواجه به الدعاة السياسيون والدينيون هو «هل يتقاضى ذلك الداعية أجرا مقابل ممارسة الدعوة». هل يعتمد فى معاشه على ما يبذله من جهد ووقت لإقناعنا بدعوته؟ هل هو معبر عن حكم الدين فعلا أو هو موظف عند الدولة لتوفير الغطاء الدينى لممارساتها؟ صحيح أنه ليس ثمة ما يمنع نظريا من تقاضى الأجر والاقتناع الشخصى ولكن الأمر يظل مثار شبهة؛ ولذلك فإن اتهام الداعية بأنه يتقاضى أجرا مقابل ممارسته للدعوة تعد من أقسى التهم التى تقلل من تقبل دعوته سواء كانت دعوة دينية أو سياسية مهما كان نقاؤها ومهما كانت إنسانيتها؛ وإذا كان «تمويل» دعاة التطرف محل شك؛ فإن الجمهور يكون أقرب لتصديق تلك «التهمة» بالنسبة لدعاة «الوسطية» الذين تلاحقهم دائما «تهمة» موالاة الدولة أو «شيوخ السلاطين» فى حين أن الصورة الذهنية لدى الجمهور للداعية المتطرف تكون باعتباره مناهضا للدولة رافضا لسياساتها، مضطهدا من قبل أجهزتها؛ أى أنه يدفع ثمن دعوته بدلا من أن يتقاضى ثمنا مقابلها.
وحيث أنه لم توجد بعد الدولة التى تشبع احتياجات وتطلعات «كافة» مواطنيها؛ فإنه بقدر اتساع رقعة المحبطين والمهمشين تكون الأرضية الخصبة للتعاطف مع دعاوى التطرف.
خلاصة القول إنه ليس صحيحا تماما أن الداعية المتطرف يحلق فى فضاء وسطي، بل الأقرب للحقيقة أنه يتحرك بين جماهير جاهزة للتطرف ومتعطشة لغطاء دينى يرفع عن كاهلها التحرج من التطرف وممارسة العنف.
إن اكتساب الفرد للاتجاهات المتطرفة تتم من خلال عملية تدريب اجتماعى يغرس قيمة تقديس التطرف بتأكيد أن الشخص القوى صاحب الموقف القاطع الواضح بل القادر على إلحاق الأذى بالآخرين هو الشخص «المحترم» فى مقابل أن الشخص الوسطى الهادئ المسالم الذى لا يرى الأمور أبيض/أسود بل يرى أوجها مختلفة واحتمالات مختلفة لنفس الموضوع شخصا مترددا ضعيفا لا يستحق الاحترام. ولكن يبقى سؤال: لماذا تجد تلك الثقافة دعما وتشجيعا لا تجده ثقافة الوسطية والسلام والاحتكام للقانون وإدانة التعذيب؟
تؤكد دراسات علم النفس الإعلامى أن رواج سلعة معينة لا يتوقف على مجرد حقيقة أنها الأفضل، ولا حتى على الإعلان عن وجودها وعرض مزاياها بل إن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام وتصاعد الطلب عليها. ويتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعى بما تتضمنه من معايير وقيم واتجاهات بحيث يصبح الطلب على تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك على صناعة السياحة والطيران بقدر صدقه على صناعة السينما والسجائر وجراحات التجميل وكذلك الأسلحة وأدوات الدمار.
ولعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة وأكثرها ربحية، ولذلك فمن الطبيعى أن تسعى تلك الصناعة لدعم الثقافة التى تساندها وتساعد على ترويجها.
وهكذا شهدنا ومازلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام والكتب ودواوين الشعر، و«الدراسات العلمية» إلى جانب «الدراسات الفقهية» التى تصب جميعا فى تقديس التطرف والعنف واعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية والسبيل الأوحد للحصول على الكرامة والاحترام والحفاظ على الحقوق، واعتبار «الجهاد المسلح» هو السبيل الوحيد لنصرة العقيدة خاصة فى مواجهة المارقين من المنتمين لنفس تلك العقيدة باعتبارهم الأشد خطرا.
ولعله مما يستلفت النظر حقا أن قوائم قيادات وممارسى العنف السياسى الدينى كانت حتى قبيل سنوات تكاد تخلو من أبناء التعليم الأزهرى رغم أنهم الأقرب إلى مصادر المعرفة الدينية، والأقرب للانتماء إلى الفئات الأكثر فقرا والأشد معاناة، كما أنهم أميل للتحفظ حيال المستحدث من أنماط السلوك و مستجدات العصر، وأميل للنظر لأنفسهم باعتبار أنهم حماة تراث مقدس لا يأتيه الباطل. ترى لماذا إذن لم تجتذبهم تيارات العنف السياسى آنذاك خاصة المتسربلة برداء الدين؟ وكيف بدأنا نشهد من أبنائنا الأزاهرة من تتسلل أسماؤهم إلى قوائم ممارسى الإرهاب؟.
ترى كيف تطرفنا؟ كيف بدأت جماهيرنا المصرية منذ سنوات تصبح جاهزة للاقتناع فكريا وسلوكيا بتلك الدعوات للتطرف والتشدد والعنف باعتبارها جوهر الإسلام الصحيح؟.
لعل ذلك يستحق تناولا مستقلا.