التوهج الديني وسياسة الانفتاح

يرتبط مصطلح الانفتاح لغويا بالحداثة والانطلاق وكلها ملامح إيجابية؛ ولكن سياسة الانفتاح التي تبناها الرئيس الراحل محمد أنور السادات ارتبطت بتوجهات فكرية إعلامية وسلوكية تروج للانغلاق ورفض التعايش مع الآخر؛ مما يبدو للوهلة الأولي أمرا عصيا علي الفهم.
ولكن بإمعان النظر قليلا يتضح لنا أن جوهر الانفتاح يتمثل اقتصاديا في انكماش دور الدولة ومؤسساتها وإطلاق العنان لحرية السوق وحرية الفكر. وقد يبدو ذلك أمرا إيجابيا لدى البعض؛ غير أن الانسحاب المفاجئ لتدخل الدولة يعني عمليا سيادة ما يعرف بمنطق السوق بمعني ترك السيادة للطرف الأقوى محليا وإقليميا ودوليا؛ و هو الأقدر بالتالي علي نشر فكره إعلاميا.

ومن ثم فقد أصبحت المؤسسات الوطنية الإعلامية والدينية الملتزمة بالتوجه السياسي للدولة الطرف الأضعف في المعادلة؛ و علي رأس تلك المؤسسات الأزهر الشريف صاحب التوجه الوسطي المحافظ؛ إلي جانب المنابر الإعلامية الرسمية متمثلة فيما أطلقنا عليه «الصحف القومية و قنوات التليفزيون الرسمية»؛ فضلا عما حدث من تعدد المراجع الإسلامية الرسمية حيث أصبح لدينا إلي جانب فضيلة شيخ الأزهر، رئيس جامعة الأزهر، مفتي الديار المصرية، هيئة كبار العلماء، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، فضلا عن وزير الأوقاف وشئون الأزهر.

كان من الطبيعي ألا يكتفي أثرياء مصر الذين يطلق عليهم اجتهادا مصطلح «رجال الأعمال» بتزايد أنشطتهم الاقتصادية في الاستيراد والتصدير و عمليات البناء العقاري وما تتطلبه من صناعات مساندة؛ بل اتجه كثير منهم إلي الاستثمار في مجال الإعلام بإقامة مؤسسات إعلامية خاصة تضم العديد من القنوات التليفزيونية والصحف التي تدر ربحا و تدافع عن مصالحهم وتعبر في ذات الوقت عن أفكارهم التي تنوعت من الليبرالية إلي السلفية.

وفي ظل هذا المناخ المنفتح وما صحبه من ذبول القطاع العام الاقتصادي؛ أصبح مستحيلا أن تصمد منابر القطاع العام الإعلامية في وجه منافسة شرسة من إعلام رجال الأعمال الأثرياء من المصريين والعرب؛ واجتذبت المنابر الإعلامية الخاصة العديد من ألمع أبناء منابر القطاع العام سواء في مجال الصحافة أو التليفزيون فضلا عن ألمع الدعاة السلفيين وأكثرهم جماهيرية؛ وذلك لسخائها في الإنفاق وعدم تقيدها بالروتين الحكومي خاصة فيما يتعلق بالأجور.

ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا ما أكدنا ما سبق أن ذهبنا إليه في كتابات عديدة سابقة أن المسئول الأول عن تشكيل اتجاهات الرأي العام في بلادنا أو غيرها ليسوا كما يظن الكثيرون نجوم السينما أو حتى المخرجين، ولا مشاهير مقدمي البرامج الحوارية التليفزيونية؛ بل إن من يلعب الدور الأساسي في تشكيل الرأي العام المصري فضلا عن تشكيل الصورة الذهنية لمصر في العالم الخارجي هم ممولو تلك المنابر الإعلامية. المنتج الممول هو من يختار النص والمخرج والممثلين بل وتوقيت العرض وكذلك أصحاب بقية القنوات الإعلامية علي تنوع توجهاتهم الفكرية يختارون

و أصبحنا حيال ما يشبه سيمفونية متكاملة تتعدد فيها النغمات و آلات العزف؛ ويظل اللحن منسجما متناغما: لقد ركزت المنابر الإعلامية الخاصة ذات الطابع الليبرالي في أفلامها وبرامجها علي معاناة المصريين وآلامهم وهي معاناة وآلام حقيقية وهو في ذات الوقت تركيز يضمن كثافة المشاهدين وبالتالي تزايد الإعلانات والأرباح؛ و بالمقابل فقد تكفلت المنابر الإعلامية الإسلامية الخاصة بتقديم سبيل التخلص من تلك الآلام والمعاناة متمثلا في الالتزام بتأويل محدد قاطع منتقي للشريعة الإسلامية دون الإيحاء للمتلقي ولو من بعيد أن ثمة تأويلات أخري؛ وهكذا تكاملت السيمفونية: شعب تحيطه الكوارث وتتهدده المخاطر ولا سبيل أمامه إلا ذلك التأويل المنتقي لنصوص بعينها من الشريعة الإسلامية.

وهكذا ظلت المؤسسات الأزهرية بإمكانياتها المحدودة، وتقيدها بالروتين الحكومي، متمسكة قدر ما تستطيع بتعليم تلاميذها مختلف المذاهب الإسلامية السنية دون انحياز لمذهب بعينه؛ في حين مضت المؤسسات الإسلامية الخاصة بمؤسساتها التعليمية والإعلامية وافرة الثراء تنهل من ذات المناهل الإسلامية التي تنهل منها مؤسسات الأزهر مع إعمال آلية انتقاء نصوص بعينها وتأويلات بعينها باعتبارها المعبرة عن الرأي الإسلامي الصحيح والوحيد وتجاهل غيرها من نصوص وتأويلات قد لا تقل عنها صحة وتوثيقا؛ ومع سيادة تلك الآلية غاب أو كاد يتلاشي من الفكر المصري عامة وليس الفكر الديني فحسب، جوهرة الفكر الأزهري المتمثلة في مصطلح «الله أعلم».

لقد عرفنا في مصر منذ تاريخ بعيد تيارا فكريا وسلوكيا وسطيا محافظا. عرفناه في قري مصر و الأحياء الشعبية في المدن حيث كان الرجال والنساء يتحرجون من كشف رؤوسهم وينتشر الطربوش والطاقية والبرقع و منديل الرأس والملاية؛ كما عرفنا أيضا تنامي تيار أكثر تحررا خاصة بين أبناء وبنات الطبقة الوسطي حيث لم يعد لدي أبناء ذلك التيار حرج في التخلي عن الالتزام بتغطية الرأس؛ وظل التياران متعايشين إلي أن جاء عصر الانفتاح وما صاحبه من توهج للتيار الإسلامي المحافظ معتمدا علي توافر بنيته الأساسية منذ الستينيات؛ و طرحه لرؤية دينية تفسر هزيمة يونيو 1967؛ وتدفق تمويل سخي لذلك التوجه بعد انتصار أكتوبر 1973.

 

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/550737.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *