لقد تمكن ناصر ببراعة من تكوين تنظيم سرى استمر لسنوات بعيدا عن اختراق السلطة؛ وذلك يعنى قدرته الفائقة على انتقاء من يمكن الوثوق بهم، وكان السادات ضمن الذين انتقاهم ناصر بالهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار، ولا نتصور أن ناصر لم يكن يعرف ملابسات عودة السادات لصفوف الجيش و ما تردد عن التحاقه بالحرس الحديدي، وإلا لكنا نلصق بعبد الناصر صفات لا تليق.
و حين تعرض ناصر لنوبة قلبية فى سبتمبر سنة 1969 وضع السادات على رأس لجنة تتولى تسيير شؤون الدولة فى غيابه، وفى ديسمبر 1969 حين تلقى وهو موشك على السفر للمغرب ما يفيد احتمال تعرضه للاغتيال؛ طلب من السادات بالذات أن يقسم اليمين فى المطار نائبا لرئيس الجمهورية، فى حين كان السادة حسين الشافعى و زكريا محيى الدين و خالد محيى الدين من أعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار ما زالوا على قيد الحياة. كان السادات إذن محل ثقة ناصر منذ تأسيس تنظيم الضباط الأحرار وحتى تولى السادات السلطة التى هيأه ناصر لتوليها.
وقبل مضى عام على توليه السلطة أطاح السادات بعدد من أبرز رجال ناصر فى مايو 1971 واعتبرها البعض دليلا على نكوصه عن خط عبد الناصر فى حين أطلق الأستاذ هيكل تعبير «ثورة التصحيح» باعتبار ما جرى تصحيحا لمسار ثورة يوليو، و كتب فى مقال له بعنوان “ماذا أقول؟” بتاريخ 21 مايو 1971 “لقد عشت لحظة التفجير. ومن حسن الحظ أن التدمير لم يقع، وتلك شهادة تاريخية لأنور السادات، وشجاعته الأدبية والمادية فى لحظات بالغة الصعوبة والخطر… كان أنور السادات فى هذه الساعة الحاسمة من التاريخ هائلاً بأكثر مما يستطيع أن يتصور أو يصف أحد. كانت قراراته لمواجهة التطورات المفاجئة مزيجاً مدهشاً من الهدوء والحسم… إننا لسنا أمام بداية جديدة وإنما نحن على طريق الاستمرار …” ثم كتب فى 26 نوفمبر 1971مقالا بعنوان «الخطوة الضرورية» مؤكدا أن «هذه المرحلة هى التى ستجعل من أنور السادات – بإذن الله – قائداً تاريخياً لشعبه وأمته…لأن القيادة التاريخية مرتبة أعلى بكثير من الرئاسة مهما كان وصفها»
ورغم ذلك فقد ظلت أصوات تتصاعد مشككة فى وطنية السادات والتزامه بخط ناصر؛ رغم ما يحمله هذا التشكيك من تلويث لسمعة عبد الناصر الوطنية الذى أسلم البلاد لمن تحيط بسمعته الشكوك؛ وتزايد تصاعد تلك الأصوات بعد انتصار مصر تحت قيادة السادات فى حرب أكتوبر وإدارته لمرحلة ما بعد الانتصار؛ وهى إدارة تحتمل الخطأ والصواب.
وفى خضم ضجيج تلك الأصوات كدت أصنف الأستاذ هيكل ضمن من يتهمون السادات بالخيانة خاصة بعد صدور كتابه الشهير «خريف الغضب» عام 1983 إلى أن تلقيت فى 27 أكتوبر 1992 دعوة كريمة من الأستاذ للقاء منفرد فى مكتبه حيث استمر الحوار ممتدا للقاء آخر فى 10 يناير 1993، و كان محور الحديث فى اللقاءين حول مفهوم «إستراتيجية السلام الهجومي»؛ وحين تساءلت عن صحة تخوين الأستاذ هيكل للرئيس السادات؛ فإذا بالأستاذ ينفى نفيا قاطعا أنه قد اتهم يوما السادات بالخيانة؛ حيث كتب الأستاذ هيكل فى 30 سبتمبر 2003 فى مقاله «استئذان فى الانصراف» خلال عرضه لتفاصيل خلافه مع السادات موضحا الفرق بين خطأ التقدير وخيانة الوطن مؤكدا أن السادات قد أضاع فرصة ثمينة لاستثمار نصر أكتوبر ولكنها « لا تلحق به مظنة الخيانة، كما يرى البعض» و لعله كان يعنى بذلك البعض فريقا ممن ينتسبون للخط الناصري.
الفارق حاسم إذن بين الخطأ النسبي؛ والخيانة التى لا تعرف تدرجا فى تقييمها. لقد أخطأ عبد الناصر دون شك فى تقدير الموقف الدولى وموازين القوى قبيل حرب 67 و لكنه ظل وطنيا لم يلق السلاح مستسلما بل بدأ فورا حرب الاستنزاف استعدادا لتحرير الأرض ووافته المنية بعد أن أسلم الراية للسادات الذى استكمل المسيرة وسار حتى النهاية على خطى عبد الناصر الوطنية فحقق النصر فى ظل ظروف بالغة التعقيد و أدار البلاد بعد ذلك مجتهدا قدر طاقته و وفقا لرؤيته للواقع الجديد محافظا على عدد من الملامح الأساسية للإدارة الناصرية للبلاد، فاعتمد بشكل أساسى على أبناء القوات المسلحة منتقيا اللواء حسنى مبارك قائد سلاح الطيران نائبا للرئيس؛ و أقام الحزب الوطنى تحت رئاسته شبيها بالاتحاد الاشتراكى القديم، و حين أقام ما عرف بالمنابر السياسية، أسند رئاسة منبرى اليسار واليمين لاثنين من أبناء القوات المسلحة: السيد خالد محيى الدين، والسيد مصطفى كامل مراد؛ وسار أيضا على خطى عبد الناصر فى محاولة استثمار الخلاف بين قوى اليمين الدينى واليسار الشيوعى لصالح «الخط الوطني» وهى محاولة كانت وما زالت محفوفة بالمخاطر. كادت تكلف ناصر حياته، وقد كلفت السادات حياته بالفعل على يد من ينتمون لقوى الإسلام السياسي.
إننا نستطيع أن نختلف حول سياسات السادات و أيضا حول سياسات ناصر دون أن يعنى ذلك بحال اتهام أيهما بالخيانة الوطنية.
خلاصة القول
من الضرورى لتصويب النظر للمستقبل أن ننظر إلى الماضى بعينينا معا دون الاندفاع إلى تخوين من نراه مخطئا، ودون الاندفاع إلى تقديس من نراه مصيبا.