مخاطر احتكار الوطنية

المرء أسير ما ألفه من أساليب حل المشكلات؛ أساليب اختبرها بالفعل وتيقن من جدواها وفاعليتها؛ويظل متمسكا بها ولو إلى حين مهما تغير الواقع من حوله، يصدق ذلك فى رؤية الأسلوب الأنسب فى تربية الأطفال بمقدار صدقه فى التحليلات السياسية وما يتبعها من أساليب التعامل مع الواقع، ويصبح العائق الأكبر هو النفور من مشقة إعادة النظر فى مدى صلاحية النظارات القديمة للتعامل مع واقع جديد؛ وتفضيل الاستمرار فى استخدام النظارات القديمة حتى لو أدى استخدامها إلى رؤية ما لم يعد موجودا، أو العجز عن رؤية ما أصبح واقعا قائما بالفعل.

ولعل نظرة عابرة إلى تراث علم النفس السياسى فيما يتعلق بصعوبة تغيير الصورة الذهنية وما يرتبط بها من صعوبة تغيير نمط التفكير تضعنا على بداية الطريق نحو فهم ما يجرى حولنا. 

العالم يتغير بسرعة غير مسبوقة، وبالتالى فإن عالمنا العربى الإسلامى الإفريقى الآسيوى وفى القلب منه مصر يكاد يتعثر فى ملاحقة تلك التغيرات. ويصعب على المرء مجرد رصد معالم ذلك التغير الذى يشمل التحالفات والمصالح وأيضا الأفكار والتصورات الإيديولوجية.

فى سوريا تتحالف الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وتركيا فى مواجهة السلطة السورية مدعومة بإيران وروسيا؛ ولا يمنع ذلك من عقد صفقات سلاح هائلة بين الولايات المتحدة والسعودية وقطر، فى حين تشهد دول مجلس التعاون الخليجى مواجهة غير مسبوقة بين قطر مستندة إلى إيران وتركيا من ناحية وبين السعودية والإمارات والبحرين بالإضافة إلى مصر؛ وفى وسط هذا كله يقوم رئيس وزراء الهند – التى كانت من أقطاب مؤتمر باندونج لعدم الانحياز – بزيارة إسرائيل للمرة الأولى محاطا بمظاهر ترحيب رسمية غير مسبوقة. لقد انفضت تحالفات وصداقات قديمة كانت تبدو راسخة، وتكونت تحالفات وصداقات جديدة، ولم يعد الرسوخ والاتساق هو الطابع المميز للعلاقات والتحالفات الدولية؛ بل أصبحنا نجد تحالفا فى موقع ما ثم إذا بأطراف هذا التحالف يتواجهون فى موقف آخر فى نفس الوقت مما يحتم ترتيبا للأولويات يتغير ويتبدل بسرعة فائقة.

وفى خضم ذلك الزخم تصبح محاولة فهم ما يجرى وتفسيره فضلا عن التنبؤ بمساره وكيفية التعامل معه؛ مهمة عسيرة شاقة تتطلب جهدا فائقا فى تجميع المعلومات وتصنيفها وإعادة تركيبها بحيث تتضح ملامح الصورة فى الوقت الراهن واضعين فى الاعتبار حتمية تغييرها الوشيك، إنها وبحق مهمة يحتاج تحقيقها إلى جهد غير مسبوق، ومرونة غير عادية وشجاعة فائقة فى القبول بأن العالم قد تغير وما كان ملائما بالأمس لم يعد كذلك فى عالم اليوم .

ويضاف إلى ذلك كله على مستوى الواقع المصرى عدد من القضايا الأكثر تعقيدا: من السد الإثيوبي، إلى جزيرتى تيران وصنافير، إلى طبيعة وجذور الإرهاب المنتسب إلى تيار الإسلام السياسي… إلى آخره. وقد تباينت الرؤى وتصادمت بشأن الموقف الأمثل من تلك القضايا؛ وزاد الأمر سخونة ما نجم عن ثورة يناير من اتساع نطاق المهتمين بالشأن السياسى العام فى مناخ من سهولة آليات التواصل الحديثة.

وقد لا يكون فى ذلك بأس إذا ما دار الحوار وعلا الصخب على أرضية أننا جميعا فى زورق واحد تتقاذفه الأمواج و أنه لا سبيل لمجرد الاستمرار فى الحياة سوى أن نستمع إلى بعضنا البعض ونكمل بعضنا بعضا؛ وأن الخطر كل الخطر يتمثل فى أن نتبادل محاولة إلقاء بعضنا البعض فى البحر بتهمة العمالة والخيانة الوطنية، غافلين أننا بذلك نسعى حثيثا لإفراغ الزورق من ركابه بل ومن الملاحين أيضا لنصبح حيال زورق فارغ تتقاذفه الرياح.

ولعلنا لا نثقل على القارئ حين نشير فى لمحة عابرة إلى أن أعدادا كبيرة من خيرة وأنقى الوطنيين المصريين قد دفعوا أعواما طويلة من شبابهم بل ودفع بعضهم حياته تمسكا بنظاراتهم القديمة التى لم تسمح لهم برؤية أن عالم القطبين الكبيرين قد انهار، كما انهار قبله عالم الخلافة العثمانية؛ واندفعوا بكل النيات الطيبة والإخلاص الوطنى إلى تخوين من يختلفون معهم ومحاولة إلقائهم من الزورق عاجزين عن رؤية أن عالما جديدا مختلفا يتشكل. ولو نظرنا إلى أحوالنا اليوم فسنجد أن الإشكالية القديمة تتجدد؛ فبدافع من الخوف على «الصورة الذهنية للوطن» يميل العديد من مثقفينا إلى احتكار الوطنية وحب الوطن؛ وفى سبيل ذلك الحب المشروع والاحتكار المحرم يعطون لأنفسهم الحق فى إلصاق تهمة العمالة والخيانة الوطنية بمن يجرؤ على الاختلاف مع ما يرون؛ معتبرين ما يفعلونه واجبا وطنيا مقدسا، متجاهلين أن تهمة غليظة كالخيانة الوطنية تعتبر من الناحية القانونية جريمة عظمى قد تصل بمرتكبها إلى حبل المشنقة وبالتالى فالتشدق بها خارج ساحات القضاء يعد جرما لا يغتفر، فضلا عن أنه يفتح على الجميع نيران جهنم، فما أيسر أن يلصق بهم معارضوهم نفس التهمة دون حاجة لدليل.

خلاصة القول إن الموقف المعقد الذى نواجهه اليوم يحتاج من الجميع حسن الإصغاء للآخر، والتفرقة الحاسمة بين الخطأ والخيانة: الخطأ أمر نسبى وارد يصححه الحوار المجتمعي؛ والخيانة جريمة ينتهى دورنا بالنسبة لها عند باب النائب العام.

 

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/603668.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *