مسار تحول الأفكار النظرية إلى أفعال إرهابية

ترى ما الذى يحكم انتشار أفكار بعينها لتتحول إلى حركة إرهابية تمارس العنف محليا أو إقليميا أو عالميا؛

فى حين يقتصر انتشار بعض تلك الأفكار بحيث لا يتجاوز نطاق جماعة بشرية بعينها؟، ولماذا تظل بعض الأفكار داخل حدود فكر صاحبها بحيث تبزغ و تنتهى ربما دون أن ينطق بها؟. ترى هل تظل ملامح الفكرة إذا ما قيض لها الانتشار ثابتة على ما هى عليه منذ نشأتها الأولي، أم أن ما يجرى على البشر من دورات للنمو يجرى على الأفكار كذلك فتنتقل من طور الطفولة إلى الفتوة فالكهولة فالشيخوخة فالذبول فالاندثار؟ إن أعدادا لا حصر لها من الأفكار تترى على عقول البشر ووعيهم منذ كانت البشرية، وينتهى الكثير من تلك الأفكار دون أن يرى النور إذا ما وجد صاحبها لسبب أو لآخر أن مجرد الإفصاح عنها لا معنى له أو لا جدوى منه؛ فقد تبدو له تلك الفكرة الجديدة سخيفة أو غير منطقية أو صادمة أو تافهة أو متهورة. وقد يقدم الفرد على اختبار فكرته بين معارفه وأصدقائه فلا تجد لديهم صدى فينساها أو يتناساها أو يحتفظ بها لنفسه. وقد تجد الفكرة صدى فتتبناها جماعة وتتحمس لها وتشرع فى الدعوة إليها؛ ومع اتساع أو ضيق نطاق الداعين والمستجيبين، تنتقل ملكية الفكرة من صاحبها الأصلى لتصبح ملكا مشاعا للجماعة تتولى تطويرها وتحديثها وتفسيرها وتعديلها بما تراه مناسبا، وقد تختلف الجماعة حول تلك التحديثات والتفسيرات والتعديلات اختلافا يصل إلى حد الانشقاق واستقلال كل جماعة فرعية بتفسيرها الذى تراه الأقرب للصواب. إن تلك الرحلة الطويلة للفكرة من عقل صاحبها إلى أن تتحول إلى تيار فكرى ممتد ومتشعب، لا تمضى بعيدا عن الظروف الاجتماعية التاريخية المصاحبة لنشأتها وتطورها، ولعل ما يعنينا من ملامح الدور الذى تلعبه تلك الظروف يمكن إيجازه فى النقاط التالية: أولا: تحدد مرحلة التطور التى يمر بها مجتمع معين نوع المشكلات التى تواجهه فى ذلك العصر، و بالتالى فإنها تحدد المجال الذى يحظى بانتشار الأفكار التى تحمل حلولا لتلك المشكلات، سواء كانت مشكلات تقنية تكنولوجية، أو مشكلات اجتماعية اقتصادية. لقد وضع عباس ابن فرناس مثلا يده على أساس فكرة الطيران، ولكن الفكرة لم تحظ بانتشار اجتماعى آنذاك، وتأجل ذلك الانتشار لتبزغ الفكرة من جديد وتلقى قبولا وانتشارا فى مجتمع يحتاج إليها لحل مشكلات تواجهه. ثانيا: تفرض مرحلة التطور التى يجتازها المجتمع نوعا من الحظر على الترويج لأفكار بعينها محبذة ترويج أفكار أخري، وتختلف درجة صرامة الحظر كما يتباين حجم التحبيذ من مجتمع لآخر ومن مرحلة تاريخية لأخري. ويسرى ذلك الموقف الاجتماعى على الأفكار العلمية والسياسية على حد سواء؛ فكثيرا ما يمثل تكشف الحقائق العلمية الموضوعية فى ذلك المجال المحظور تهديداً للبناء الأيديولوجى الذى يحمى البناء الاقتصادى الأساسى للمجتمع المعين فى المرحلة المعينة. البناء الداخلى لجسم الإنسان البدائى مثلا لا يختلف موضوعيا عن نظيره لدى الإنسان المعاصر، لكن التوصل إلى معرفة القوانين الموضوعية التى تحكم عمل هذا الجسم، وما يتطلبه ذلك من تشريح له، أمر قد تأخر حقبا طويلة بل إنه قد ووجه عندما أوشك أن يتحقق بهجوم بالغ الضراوة والعنف، وكذلك كان الحال بالنسبة لإقرار حقيقة دوران الأرض حول الشمس، وبالنسبة لبحوث الاستنساخ وزراعة الأعضاء إلى آخر تلك الموضوعات التى تتداخل فيها الأيديولوجيات و العلم، أما فيما يتعلق بالأفكار الاجتماعية السياسية فالوقائع تفوق الحصر.

ثالثا: إن المؤسسات، والنظم، والتنظيمات، لابد وأن تنتهى يومًا، بل ويمكن إنهاؤها، أما الأفكار فإنها تتجدد وتتطور ولا تفني. قد تجمد الأفكار وتنغلق، وقد يعلو صراخها أو يخفت همسها، لكنها أبدا لا تموت حتى ولو مات أصحابها، تتساوى فى ذلك أشد الأفكار سخفا مع أكثرها رقيا: العقائد الدينية والوثنية والإلحادية، والأفكار النازية والشيوعية والصهيونيّة والاشتراكيّة….إلى آخره. إن الأفعال ترتبط بحياة أصحابها وتنتهى بموتهم. و المؤسسات تنتهى بانتهاء الحاجة إليها، أو بتدهور أدائها؛ أما الأفكار فما دامت قد خرجت من أفواه أصحابها أو من أقلامهم فإنها تظل باقية ولو مختزنة0 إن «الإرهاب السياسي» ينتمى إلى تيار فكرى واسع يقوم على تبنى العنف باعتباره الطريق الأمثل للتغيير السياسى، وتعد ظاهرة التغيير السياسى بالعنف ظاهرة لم يخل منها مجتمع عبر التاريخ، ولم يكن الفكر الدينى، سوى المحرك الأيديولوجى لبعض من أشكال ذلك التغيير الذى لم يخل منه تاريخ أي جماعة بشرية، وقد تعرض هذا المفهوم عبر تاريخ الأديان والعقائد لموجات من الازدهار والخفوت تبعا للظروف التاريخية والسياسية. ولعله مما يستلفت النظر أننا لا نستطيع أن نجد جماعة بشرية عبر التاريخ نظرت لما مارسته من عنف باعتباره عنفا غير مشروع أو مبرر، ومن ثم فإن الموقف الأخلاقى من ممارسة العنف يجعلنا حيال عنف مشروع نمارسه «نحن» فى مقابل عنف غير مشروع يمارسه «الآخرون»؛ ويختلف الأمر باختلاف انتماء الطرف الموجه إليه العنف من ناحية وانتماء القائم بالتوصيف من ناحية أخري.

 

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/559244.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *