نردد كثيرا تعبير ضرورة اجتثاث جذور الإرهاب وكيف أن المواجهة الأمنية وحدها لا تكفي؛ وينصرف الذهن عادة إلى تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب.
وقد نمضى خطوة أبعد من مجرد التصدى للأفكار وتحديث الخطاب الدينى للحديث عن ضرورة تنمية المجتمع والقضاء على الفقر والعشوائيات وتطوير التعليم ومحو الأمية إلى آخر قائمة طويلة من العلل الاجتماعية التى لا جدال فى ضرورة التصدى لها ولكن السؤال يظل قائما: ترى لو تحقق كل ذلك رغم صعوبته سوف نشهد نهاية للفكر الإرهابي؟ أشك فى ذلك كثيرا.
ينبغى التفرقة بحسم بين «الفكر الإرهابي» و«الفعل الإرهاب» لفهم طبيعة العلاقة بينهما. يضرب الفكر الإرهابى بجذوره بعيدا فى التاريخ البشري؛ فلم تخل حقبة من حقب التاريخ البشرى من مفكرين يدعون لفكرة ضرورة تغيير المجتمع بالقوة؛ وهى الفكرة الأساسية التى تقوم عليها كل الأبنية الفكرية الإرهابية. ولدينا العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية والتاريخية التى تحدد ملامح التفكير الإرهابى كما تكاد تجسد ملامح ممارس العمل الإرهابي. وثمة العديد من الدراسات التى خلصت إلى أنه لا جدوى من البحث فى علم الأمراض النفسية الفردية لفهم سبب انخراط الناس فى الإرهاب، وأننا لن نكون مبالغين إن نحن جزمنا بأن الإرهابيين أشخاص «طبيعيون» نفسيا، بل إن الجماعات والمنظمات الإرهابية تعزل من بين صفوفها الأشخاص الذين يعانون اضطرابات نفسية باعتبارهم يمثلون مخاطرة أمنية، وأن المعلومات المتوافرة عن مرتكبى الجرائم الإرهابية لا تكشف عن وجود سمات مشتركة نمطية ثابتة تساعد فى تحديد من يمكن أن يكون معرّضا لأن يصبح إرهابيا.
ويبدو لنا أن ذلك المأزق إنما يرجع إلى الخلط بين الفكر الإرهابى والفعل الإرهابي، فثمة فكرة سيطرت على كثير منا مؤداها أن الفكر يؤدى إلى الفعل مباشرة أو بعبارة أخرى أن تبنى فكرا معينا يؤدى تلقائيا إلى ممارسة فعل يتسق مع ذلك الفكر؛ وبناء على ذلك التصور مضينا ننقب فى العوامل تهيئ المرء لاعتناق الأفكار الإرهابية باعتبار أن اعتناق الأفكار يؤدى بالضرورة إلى ممارستها؛ ومن ثم بذلنا جهدنا ومازلنا تحت شعار تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب نحو تنقية مناهج التعليم من أساليب التلقين والحفظ التى ترسخ اليقينية، وتوعية الدعاة وخطباء المساجد إلى آخره؛ وكل ذلك وغيره واجب لازم لتطور المجتمع وتحديثه سواء كانت هناك جرائم إرهابية أو لم تكن؛ ولكن القول إنه ينبغى تحديث المجتمع من أجل القضاء على الإرهاب أو أن الإرهاب يختفى فى المجتمعات المتقدمة الحديثة، فهو قول لا يقوم عليه دليل بل ثمة العديد من الأدلة والوقائع التى تتناقض معه.
يبدو للكثيرين أن عقل المواطن كما لو كان صفحة بيضاء محايدة يتعرض لمصادر فكرية متنوعة تتنافس فى التأثير عليه وتتفاوت من حيث قوة تأثيرها ومنطلقاتها الإيديولوجية؛ وأن ذلك المواطن يفاضل بين تلك التيارات الفكرية ليختار أقدرها على إقناعه؛ ومن ثم فلو حجبنا عنه المصادر المتطرفة و أحسنا عرض مصادرنا الوسطية المعتدلة انتهت المشكلة أو كادت. والأمر فيما نرى ليس كذلك على الإطلاق من الناحية العملية على الأقل حيث لم يعد فى مقدور أحد فى عالم الفضائيات المفتوحة حجب فكر معين مهما يكن رفضنا له؛ ومن ثم فإن حلم اجتثاث الفكر الإرهابى يظل مجرد وهم. صحيح أن الفعل الإرهابى لا يمكن أن يتحقق عمليا دون فكر إرهابى ولكن العكس غير صحيح وذلك هو مكمن المشكلة؛ بمعنى أنه سوف يوجد دوما من يحملون فكرا إرهابيا يقينيا متطرفا؛ وقد يظلون بأفكارهم الإرهابية يحلمون بأن تتاح لهم الفرصة لترجمة أفكارهم إلى أفعال؛ أما التحول من الأفكار الإرهابية إلى الممارسة الإرهابية فإنه يتطلب توافر شروط موضوعية عديدة منها تجمع أولئك الأفراد فى مجموعات حيث العمل الإرهابى عمل جماعى بطبيعته وقد شهدنا أخيرا إمكانية ما أطلق عليه «التجنيد عن بعد» أى عبر الإنترنت؛ ولكن على رأس تلك الشروط الموضوعية توافر مصادر تمويل تكفل توفير مقرات للتدريب والإقامة والتسليح والممرات الآمنة لنقل السلاح والمقاتلين إلى آخره، وكلها أمور عالية التكلفة فى عالم اليوم بحيث يصبح فى حكم المستحيل أن توفرها جماعة اعتمادا على قدراتها المالية الذاتية متمثلة فى استثماراتها وتبرعات أعضائها؛ ولا بد من توفير علاقات بدول داعمة ومخابرات قادرة. هكذا تقول لنا على سبيل المثال خبرة إقامة أسامة بن لادن لتنظيم القاعدة، حيث لم تكن ملايين بن لادن وحدها ولا سيل التبرعات و المتطوعين المتدفق من شتى أنحاء العالم بقادر على إقامة تنظيم القاعدة لولا دعم دولة باكستان التى كفلت غطاء إسلاميا دينيا لتعاونها سرا مع المخابرات الأمريكية فى توفير السلاح اللازم للقاعدة. ولنا أن نتساءل ترى هل نكف إذن عن نقد ونقض الأسس الفكرية للإرهاب مادمنا فى النهاية لن نستطيع القضاء تماما على التفكير الإرهابي؟ العكس صحيح تماما. إن النقد الموضوعى العاقل للفكر الإرهابى كفيل بتقليص مساحة القابلين للتجنيد ومن ثم تقليص حجم من يمكن أن يجتذبهم الفكر الإرهابي.
خلاصة القول: نقد الفكر الإرهابى ونقضه فريضة. اجتثاث الفكر الإرهابى وهم. القضاء على الجرائم الإرهابية ممكن من خلال تضافر المواجهة الأمنية مع تجفيف مصادر التمويل.