بقلم: د. مجدي يوسف
ماذا يتبقى للمرء من هذه الدنيا؟ ليست هى المناصب التى تقلدها، وإنما ما خلفه من بصمات فى الطبيعة، وفى المجتمع على حد سواء. وهذه لا تقاس إلا بمقدار ما تكون به نافعة للناس، يذكرون بها المرء فى حياته بكل الحب والحدب، وفى رحيله بكل الاشتياق والحنين. فالحقيقة أنه لا يوجد خط ناجز بين الحياة الدنيا، والرحيل جسديا عنها، لأن الحياة الحقة هى التى تتمثل فى البصمة التى يخلفها المرء وهو حى أو بعد أن يغادر الحياة الجسدية لتظل ذكرى له فى نفوس الآخرين. قياسا على ذلك فقد كانت حياة الراحل الجليل قدرى حفنى ــ الذى ظل يكتب على صفحات الأهرام مرة كل أسبوعين لسنوات طوال ــ هى ما تتمثل فيما تركه لنا نحن أصدقاءه ومحبيه من أثر فى نفوسنا، ومن بصمة فى الطبيعتين بوجه عام. وهو ما يدفعنا للوقوف على ما خلفه لنا من ذكرى نعتز بها، ونحرص على أن ننقلها للأجيال الحالية والقادمة. ولعل خبرتى بالراحل الكريم منذ أن تزاملنا فى قاعات الدرس فى الخمسينيات فى قسم علم النفس بجامعة عين شمس، ثم ما عبرنا به كل تلك السنوات والعقود من تجارب وخبرات يسمح لى بأن أسعى لتلخيص ما تركه لنا قدرى من بصمات تستحق أن تسجل فى هذا المقام. أولي تلك البصمات أنه كان باحثا مخلصا عن المعرفة بكل ما تعنيه الكلمة. وكان محك المعرفة عنده هو الهم الاجتماعى العام الذى يشغلنا جميعا فى هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر. ولعل ذلك هو ما جعله يتخصص فى علم النفس الاجتماعى والسياسى ساعيا لاستكشاف ما يشغل مجتمعنا المصرى والعربى المعاصر من هموم وقضايا مصيرية، فى مقدمتها تحدى المخطط الإرهابى الدولى الذى زرع لنا فى منطقتنا كيانا مصطنعا يرهبنا ويبتز به شعوبنا حتى لا تنشغل بما تستعيد به أمجادها القديمة فى حاضرها، ومن ثم تظل معوقة عن التنمية الحقيقية لشعوبها، بمقاومة ذلك الكيان الدخيل المفروض عليها من قوى الاستعمار القديم والجديد معا. وقد تمثلت بصمة قدرى حفنى فى هذا الشأن بأن أوضح ما خفى على ردود الفعل التلقائية من رفض تام لذلك الكيان الاستيطانى المصطنع، أو مهادنة له توقيا لشره وشر القوى الكبرى التى تدعمه ضدنا، بأن بين المتغيرات التى طرأت على ذلك الكيان المرفوض من شعوب منطقتنا، وهى التى لم يكن لها أي نصيب مما اقترفه الغرب حتى نهاية الحرب العالمية الثانية من مجازر بإزاء أقلياته اليهودية، بينما زرع لها موطنا مصطنعا فى الأراضى العربية التى طالما عاشوا بين أهليها فى سلام ووئام، هو ما لفت الأنظار إليه قدرى حفنى من وجود أجيال جديدة، بينما لا تعرف وطنا لها سوى ذلك الموطن المفروض علينا. فكيف يكون العمل مع هذه الظاهرة السكانية الجديدة؟ وكيف يكون تعاملنا معها؟ هنا تكمن البصمة البحثية العلمية التى تميز بها صاحب الدراسات الإسرائيلية من منظور علم النفس الاجتماعى.
وحين ينتقل قدرى حفنى للإرهاب فى سيناء، وهو التحدى الآخر الذى صار يؤرقنا، نجد أن قدرى قد حرص على توضيح أن ظاهرة الإرهاب فى أصولها قائمة على صورة ذهنية يتعين علينا أولا أن نتصدى لها أمنيا بما يتفق معها من أدوات نفس اجتماعية. ولعل فى التنمية الاقتصادية لسيناء سلاحا فعالا فى مقاومة أسباب انتشار الإرهاب هناك، إلا أن البحث عن سبل مقاومة الفكر الإرهابى بخلخلة نسقه الذهنى من داخله كان المطلب الرئيسى الذى ظل قدرى يدعو إليه.
ولم يقتصر قدرى حفنى على معالجة القضايا المصيرية للمجتمع المصرى والعربى المعاصر، بل تطرق بالمثل لقضايا المنهج فى البحث العلمى ،حيث كان قد طلب منه أن يحاضر طلبة الدراسات العليا فى هندسة الإنتاج فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس. وتبعا للتصور النمطى فى حياتنا الجامعية والعامة فقد استهان طلبة الهندسة فى أول الأمر بذلك الوافد عليهم من كلية الآداب ليدرسهم مناهج البحث. لكنهم ما لبثوا أن تعلموا منه طرح الأسئلة على ظواهرهم الهندسية بوصفها ظواهر نفس اجتماعية، أو بعبارة أخرى تطعيم النظرة الكمية الهندسية، بالأسئلة الكيفية التى كثيرا ما لا تطرح فى مجالات البحث فى العلوم الطبيعية. ولا عجب فقد كان من وراء تكليف قدرى حفنى بهذه المهمة منذ بضعة عقود عالم جليل فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس هو صديقنا العزيز الأستاذ الدكتور حامد الموصلى، صاحب الدراسات الرائدة فى التنمية البشرية المستقلة فى المناطق الريفية والصحراوية. وما هذه النماذج التى ذكرتها إلا بعض الروح التى ظلت وستظل ترفرف علينا من جانب صاحبها سواء أثناء حياته الدنيا أو بعد مغادرتها لتستقر ذكراه العطرة فى نفوسنا كى يحيا بها حياته الأخرى بعد مغادرته لنا حسيا. > أستاذ فلسفة المعرفة بجامعة بريمن بألمانيا