استجلاب السعادة

قامت دولة عربية بتعيين وزيرة دولة للسعادة ومن أهم مهامها مواءمة كل خطط الدولة وبرامجها وسياساتها لتحقيق سعادة المجتمع؛ مما يوحي بأن السعادة يمكن أن تندرج ضمن مهام الحكومات؛ و مع كل التقدير للنيات الطيبة؛ فإن الأمر في حقيقته يبعد عن ذلك كثيرا. فقضية البحث عن السعادة تضرب بجذورها بعيدا في تاريخ البشر.

لقد حاول البشر استجلاب السعادة و الطمأنة لأنفسهم بقراءة الطالع، واستقراء النجوم، ورؤي العرافين، وسحر السحرة. كما لجأوا لمن يتوسمون فيهم طيبة وعلما وحكمة يلتمسون لديهم ما يخلصهم من شقائهم، أو من يقدم لهم وصفة تريحهم من عذابهم. ونستطيع أن نجتهد فنصنف تلك السبل التي توصل لها البشر خلال بحثهم عن السعادة وسوء المزاج إلي سبيلين أساسيين يتفرع من كل منهما سبل فرعية تزيد أو تقل: سبيل يقوم علي تغيير الواقع المعيشى وسبيل يقوم علي تعديل الوعي بذلك الواقع

وليس مطروحا في هذا المقام التعرض بالتفصيل للسبيل الأول وهو تغيير الواقع المعيشى، حيث إنه يقوم بكل تفريعاته علي مسلمة مؤداها أن المصدر الأساسي لتعاسة الإنسان إنما يكمن في واقعه الاجتماعي وما يتضمنه ذلك الواقع من ظلم وقهر وتعسف، وأنه لا سبيل للتخلص من تعاسة الإنسان إلا بتعديل تلك الظروف المسببة للتعاسة.

ليكن حديثنا إذن عن السبيل الثاني أعني تغيير الوعي بالواقع. ونستطيع أن نمايز داخل هذا السبيل بين عدة اتجاهات:

أولا: اتجاه يسعي لتعميق الوعي بالواقع تبصيرا للفرد بالجذور الاجتماعية الاقتصادية التاريخية لمعاناته و لما يكابده من شقاء، دفعا به إلي ضرورة السعي لتغيير ذلك الواقع لبلوغ ما يرجوه من سعادة. و غني عن البيان أن السعادة المرجوة عن هذا السبيل لا تتأتي في طرفة عين بل يقتضي بلوغها مزيدا من الجهد والألم ولكنه يكون جهدا محققا للذات و بالتالي يكون في حد ذاته مصدرا للسعادة والرضا. ويكاد يقتصر أصحاب هذا الأسلوب من السعي لبلوغ السعادة علي دعاة التغيير الاجتماعي من القادة السياسيين و الدينيين و غيرهم من المفكرين، وفي تاريخ علم النفس نماذج قليلة فريدة من علماء النفس ممن وظفوا علمهم وفنياته المتخصصة في خلق وعي يدفع للتغيير الاجتماعي، وغني عن البيان أن هذا الاتجاه يشترك مع السبيل الأول الذي آثرنا عدم الخوض في تفاصيله ـ أي سبيل تغيير الواقع المعيشى- في التسليم بأن مصدر التعاسة يكمن في ظروف العالم الخارجي، وإن كان أصحاب هذا الاتجاه بحكم تخصصهم يرون أن الوعي الاجتماعي هو السبيل الآمن لتحقيق تغيير حقيقي في الواقع المعيش.

ثانيا: اتجاه يقوم أيضا علي أن منشأ التعاسة يكمن في الواقع الخارجي، ولكن أصحاب هذا الاتجاه لا يرون سبيلا لتغيير هذا الواقع ومن ثم فلا بد من تحمله والقبول به كما هو، فإذا ما تعذر احتمال آلامه فالسبيل الوحيد المتاح هو محاولة التدخل بتعديل الوعي لتتحقق السعادة رغم استمرار الواقع كما هو، ومن هنا عرف الإنسان خبرة تعاطي المخدرات، حيث اكتشف أن سعادته مخدرا لا تقارن بتعاسته واعيا، وأن نسيانه أو تناسيه وتجاهله مخاطر وآلام الواقع تجلب له من الطمأنينة ما لا يقارن بالعذاب والقلق الذي ينجم عن الوعي بمآسي الحاضر وبكوارث المستقبل.

ثالثا: اتجاه يقوم كلية علي أن تعاسة الإنسان إنما تكمن في نظرته إلي نفسه و إلي العالم، ومن ثم تكمن السعادة في تغيير تلك النظرة، أو بمعني آخر في فهم الإنسان لنفسه وللحياة فهما متفائلا. ورغم ما يبدو من عدم اهتمام ذلك الاتجاه بدور المجتمع والظروف التاريخية الاقتصادية في تعاسة البشر، فإن بريقه لم ينطفئ أبدا، وجاذبيته تتجدد دوما. إننا حين نلتمس عونا نفسيا علميا متخصصا للخروج من تعاسة تفوق احتمالنا، فإننا في الأغلب نلتمس نوعا محددا من العون يكفل لنا بلوغ السعادة و يجنبنا في نفس الوقت دفع الثمن المستحق لنيل تلك السعادة المتمثل في معاناة إحداث تغيير ولو جزئي في الواقع الذي ألفناه رغم أنه مصدر شقائنا.

أخيرا لعله غني عن البيان أن حديثنا يقتصر علي من يعانون تعاسة دون أن يدخلوا تحت مظلة «المرضى» بالمعني الفني للكلمة، وتظل التفرقة بين هؤلاء وغيرهم مهمة بالغة الدقة والخطورة: من هو «المريض» الذي يحتاج تدخلا علاجيا قد يتجاوز رؤيته بل وإرادته، ومن هو «التعس الشقى السوى» الذي يمثل غالبية من يلتمسون عونا قد يتمثل في كلمة تنير لهم وعيهم بأسباب لتعاستهم قد تكون خافية عليه.

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/640843.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *