ترى هل التفكير خبرة سارة؟ مؤلم؟ مريحة؟ مجهدة؟ إن صورة المفكر تبدو للوهلة الأولى صورة جديرة بالاحترام؛ كثيرا ما يطلق على بعضنا صفة «المفكر الكبير». ولكنا كثيرا ما نسمع العديد من التعبيرات الشعبية تعادل بين «الفكر» و»الغم» أو «الحزن» فيقال مثلا «إن فلانا كان عنده شوية فكر لكن راحوا والحمد لله»
نحن جميعا نفكر فى حلول لمشكلاتنا بشكل تلقائى طبيعي، وهذا ما يبدو لنا للوهلة الأولي. ولكن إذا ما تأملنا أنفسنا وواقعنا تكشفت لنا صورة مختلفة بعض الشيء. ليس صحيحا أن حل أى مشكلة يحتاج إلى تفكير، فثمة مشكلات لا تطلب من الفرد سوى أن يلجأ إلى مخزونه من الحلول التى سبق أن مارسها وأثبتت جدواها. وتنتهى المشكلة تمامًا فور استعادة تلك الحلول وتطبيقها. وقد لا تستغرق هذه العملية بكاملها طرفة عين. ولكن للأسف فإن مثل تلك الحلول الخاطفة لا تتحقق فى كل المواقف، فإذا ما أخفق الحل التقليدى المألوف فعلى المرء أن يبحث عن حل جديد مبتكر لمشكلته التى يعانيها. أن يفكر تفكيرا إبداعيا. والتفكير الإبداعى يعنى الاختلاف والخروج عن النمط المألوف. وكلها أمور قامت أغلب المجتمعات على رفضها والتخويف منها، فالتنشئة الاجتماعية تقوم عادة على التحذير من الخطأ وعقاب المخطئ؛ ومن ثم فقد يفضل المرء فى كثير من الأحيان أن يتجاهل وجود المشكلة. ومع التجاهل يختفى الهدف، وتتلاشى آلام الوعى والإحباط، وتسود الطمأنينة والسعادة، ولكن تظل المشكلة قائمة بل لعلها قد تتفاقم.
رب من يتساءل، ترى وهل هنالك حقًا من يفضلون سعادة اللحظة الراهنة مهما تكن خطورة المشكلات القائمة والقادمة؟ الإجابة الفورية نعم، بل ولعل هؤلاء يمثلون الغالبية فى بعض الأحيان. ويصدق ذلك بشكل خاص على المشكلات الاجتماعية، والبيئية، والاقتصادية، والسياسية. وقد يبدو للوهلة الأولى أن مثل تلك المشكلات بحكم حجمها وشمولها عصية على التجاهل، فضلًا عن التجهيل. ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا، إنها الأكثر قابلية للتجاهل، والأكثر استهدافًا للتجهيل، خاصة إذا ما كانت من نوعية تلك المشكلات التى لا تبدو فى اللحظة الراهنة سوى علاماتها المنذرة فحسب.
إن تلك المشكلات تتميز بأمور ثلاثة:
الأمر الأول: أنها ذات طابع تاريخي، يندر ظهورها فجأة بين عشية و ضحاها، بل تبدأ نذرها خفية فى البداية، ثم تأخذ فى التراكم والتضخم والظهور شيئًا فشيئًا. ولذلك فإن رصد بداياتها الأولي، ربما يتطلب توافر عدد من السمات الشخصية، والقدرات العقلية، فضلًا عن بعض المعارف المتخصصة، مما قد لا يتاح مجتمعًا سوى لدى نخبة محدودة من الأفراد. ومثل أولئك الأفراد حين يمسكون بنواقيس الخطر، ويرفعون رايات التحذير، لا يلقون فى الغالب من مجتمعاتهم ترحيبًا كبيرًا. إنهم دعاة التشاؤم، المنقبون عن المشكلات. وفى أغلب الأحوال فإن هؤلاء الأفراد يعانون كثيرًا نبذ أبناء مجتمعاتهم لهم، خاصة أنهم يرون أنفسهم الأكثر انتماء والأكثر حرصًا على مصالح تلك المجتمعات. ولذلك فإنهم فى كثيرٍ من الأحيان يختارون فى النهاية الحفاظ على انتمائهم لجماعتهم وعلى تقبل أبناء جماعتهم لهم ومن ثم فإنهم قد يقدمون على طى رايات التحذير، والكف عن دق نواقيس الخطر.
الأمر الثاني: أن حل ذلك النوع من المشكلات لا يمكن أن يتأتى بجهدٍ فردى مباشر بل لا بد أن يكون ذلك الجهد جهدًا اجتماعيًا جماعيا مخططًا.
الأمر الثالث: إن حل ذلك النوع من المشكلات لا يتطلب فحسب وعيًا بالمشكلة، وبحثًا عن الطريق الأنسب للتخلص منها، بل إنه يتطلب فى أغلب الأحيان تصديًا لقوى ومؤسسات اقتصادية اجتماعية عاتية تستفيد من استمرار تلك المشكلات قائمة بل تدفع بها إلى مزيد من التفاقم.
ومن ثم فإننا لا نبالغ إذن عندما نقرر أن تعثر الوعي، ومن ثم التعثر فى حل العديد من مثل تلك المشكلات الاجتماعية التى نعانيها لا يرجع إلى كونها غير قابلة للحل، أو لكونها بالغة التعقيد فحسب، ولكنه يرجع فى المقام الأول إلى أوضاع اجتماعية اقتصادية تاريخية تخلق مصالح اقتصادية يقوم بقاء أصحابها على استمرار الحال على ما هو عليه، ومن ثم التصدى بكل الوعى والحسم لأى محاولة للحل، كما يرجع من ناحية أخرى إلى عزوف النخب القادرة على طرح الحلول المبتكرة تخوفا وقصورا. تخوفا من دفع ثمن المبادرة والتصدي، وقصورا فيما يتعلق بالمهارات التى يتطلبها تكوين قوى الضغط وكذلك مهارات العمل الجماعي. وغنى عن البيان أن عقبتى التخوف والقصور عقبات صنعتها قوى اجتماعية عبر تاريخ ممتد، ولكنها عقبات قابلة للإزالة، ومصيرها حتما للاندثار.