كثيرا ما يجد المرء نفسه فى مواجهة سلوك لفظى أو عملى يثبر غضبه؛ أو يمس معتقداته أو ثوابته. ومن الاستجابات الشائعة فى مثل ذلك الموقف أن يندفع المرء إلى مهاجمة صاحب ذلك السلوك بهدف دفعه للإقلاع عن سلوكه. قد يسخر منه, قد ينبش فى ماضيه كاشفا عوراته القديمة مهددا إياه بكشف المزيد مما يبرز شذوذه إنسانيا أو وطنيا أو عقائديا.
وتعلمنا خبرات التاريخ أنه ما من مواجهة غاضبة عالية النبرة من هذا النوع يمكن أن تصل إلى نهاية ناجعة حقا؛ فالجروح والندوب العميقة التى تخلفها تظل تنزف فى صمت إلى أن يعاود الجرح انفجاره من جديد. وما يصدق على الأفراد فى هذا الصدد يصدق أيضا على الجماعات ومواجهاتها. وتعلمنا خبرات التاريخ أيضا أن اختزال تلك الندوب إلى حدها الأدنى لا يمكن أن يتحقق إلا إذا التزمت أطراف المواجهة حدود احترام الآخر وحقه فى الاختلاف؛ فليس من سبيل لتعديل فكر الآخر سوى الاعتراف بداية بحقه فى الاختلاف.
وكثيرا ما نخلط بين حق الجميع فى الاختلاف ؛ والدعوة للتسامح و قبول الآخر. لقد أصبحت تلك الدعوة للتسامح كما لو كانت تمهيدا لنكوص المرء عن عقيدته الدينية أو على الأقل إدخال تعديلات على جوهر تلك العقيدة، وغنى عن البيان أن أحدا لا ينبغى أن تغيب أن ثمة تفرقة ضرورية واجبة بين ثبات العقيدة الدينية أو التوجه السياسى وتغير الخطاب المعبر عن تلك العقيدة وذلك التوجه وفقا لمتغيرات العصر.
وتصبح تلك المقدمة ضرورية فى ضوء ما نشهده من طرح مشوه للدعوة لحوار مع الآخر؛ إذ يضمر الكثير منا حين يبدى ترحيبه بالحوار مع «الآخرب» أن يسعى من خلال ذلك الحوار إلى إقناع ذلك «الآخر» بفساد أفكاره السياسية أو الدينية و من ثم محاولة كسبه إلى ما يراه هو صحيحا، أى أن الحوار يصبح فى هذه الحالة نوعا من مقارعة الحجة بالحجة بهدف أن يسود فى النهاية خطاب واحد. وقد أثبتت الخبرة البشرية التاريخية أن انتشار أو انكماش أعداد معتنقى الأفكار السياسية أو العقائد الدينية لا يتأثر بالحجج و الأسانيد العقلية المجردة، بل ولا حتى بممارسة القهر؛ بقدر ما يتأثر بعوامل أخرى على رأسها طبيعة توازن القوى على الأرض إلى جانب النموذج الأخلاقى الذى يجسده صاحب الفكرة وتعبر عنه فكرته.
وقد يبدو للبعض أن المقصود بالخطاب المتسامح هو أن نتسامح مع «الآخرين» باعتبارهم قد اعتنقوا العقيدة أو الفكرة «الخطأ»، وليس ذلك بحال المقصود بالتسامح؛ بل المقصود بالتسامح هو أن يلتزم الجميع السماح لبعضهم البعض بممارسة التعبير عن أفكارهم وعقائدهم باعتبارها حقا خالصا لهم، و ليس تفضلا عليهم من أحد، أما خارج هذا الإطار، فينبغى أن يسود بين الجميع العدل ومجموعة القيم اللصيقة به مثل الاحترام و الصدق والسلام والتعاون والأمانة. وتصبح الحاجة للعدل أكثر ضرورة فيما يتعلق بالعلاقة بين أتباع الأديان المختلفة؛ فرغم أن الأديان جميعا تدعو للعدل والسلام، وأنه لا يوجد دين سماوى يدعو أتباعه إلى العنف و الظلم وغيرها من الرذائل؛ إلا أن ثمة تأويلات متباينة للعقيدة الدينية الواحدة، وأن تلك التأويلات تختلف من حيث رؤيتها للأسلوب الأفضل للتعامل مع الآخر المختلف عقائديا، وأن كل تأويل من تلك التأويلات المتباينة يلتمس لنفسه العديد من الأسانيد الفقهية الدينية «الصحيحة» التى تبرر موقفه.
إن التأويل الذى يتفق مع هذه الدعوة للتسامح والقبول بالآخر هو ذلك التأويل الذى يسلم بأن تعدد الأديان و المعتقدات وأنماط السلوك يعبر عن إرادة الله عز وجل؛ و أنه لا مناص من القبول بتلك الحقيقة، وأن أحكام القانون ينبغى أن تسرى على الجميع دون تمييز؛ فلا مجال لمراعاة خاطر المواطنين المسيحيين إذا ما أقدم مسيحى على جريمة، ولا مبرر لمراعاة مشاعر المسلمين إذا ما تجاوز مسلم القانون، وما يسرى على العقائد والأفكار الدينية يسرى كذلك على تنوع عادات البشر فى ملبسهم و مأكلهم وممارساتهم اليومية، ولا بد من نشر الوعى بتلك القاعدة القانونية التى تؤكد أن العقوبة شخصية و أنه لا مجال فى شريعة دينية أو قانون مدنى لتبرير العقوبة الجماعية.
إن القيادات الدينية المسيحية والإسلامية على حد سواء على تعدد منابرها تعد بمنزلة المرجعيات التى يلجأ إليها المواطنون لالتماس الفتوى فى شئون دينهم، كذلك فإن الدولة المصرية تلجأ إلى الكنيسة وإلى الأزهر لاستطلاع الرأى فى الشأن الدينى للمواطنين المصريين المسلمين والمسيحيين، ثم تتولى الدولة عبر مؤسساتها التشريعية والسياسية والتنفيذية تفعيل ما تستخلصه من رؤى القيادات الدينية؛ وفيما عدا ذلك فلا ينبغى لتلك القيادات أن تتحول إلى قيادات سياسية لجماهير المسلمين أو المسيحيين المصريين.