علم النفس المثير للجدل (4)

يأخذ البعض على علم النفس كما سبق أن أشرنا التزام جانب التناول غير المباشر لمادة بحثه، و لو أمعنا النظر لوجدنا أن ذلك لم يعد بالأمر الغريب فى مجال العلم عموما. فليس هناك ثمة شيء مادى ملموس يسمى بالجاذبية مثلا ولذلك فحين يتصدى عالم الفيزياء لدراسة ظاهرة الجاذبية يضطر إلى دراستها من خلال تأثيرها على المواد الملموسة أى التى يمكن تناولها مباشرة، والأمر شبيه بذلك بالنسبة لعالم النفس، الذى يتعرض لتناول ظاهرة كالضعف العقلى أو الذكاء مثلا فلا يجد أمامه سوى أن يلتمس وجود تلك الظاهرة ومقدارها من خلال العديد من مظاهر السلوك الإنسانى التى يستطيع تناولها وقياسها بشكل مباشر. والخلاصة أن تلك الصعوبة ـ وبصرف النظر عن تقييمها ـ تعد أمرا مألوفاً فى العديد من مجالات التخصص العلمي، وبالتالى فهى ليست وقفا على دراسة السلوك الإنساني.

أما فيما يتعلق بأن عالم النفس يكون عرضة للتحيز خلال بحثه فى السلوك الإنسانى حيث إنه جزء من الظاهرة التى يدرسها، وأن تلك خاصية يختص بها علم النفس دون بقية العلوم، فإنه يكفى فى هذا المجال أن نستعيد واقعة حدثت عام 1902 فى مجال علم الفيزياء. سقطت باريس فى القبضة الألمانية يوم 28 يناير 1871 و تم إعلان قيام إمبراطورية ألمانيا من داخل غرفة المرايا وسط قصر فرساى وفى قلب العاصمة باريس، و إضرام النار فى أشهر رموز فرنسا قوس النصر، وبذلك استسلمت الأمة الفرنسية، وسادت المرارة نفوس الفرنسيين وأصبح شاغلهم الأول هو استعادة كرامتهم إلى أن تمكنوا من استعادتها خلال الحرب العالمية الأولى التى أعلنوها على ألمانيا قبل الجميع عام 1914.

و فى عام 1895 اكتشف عالم الفيزياء الألمانى فيلهلم رونتغن (1845 ــ 1923) الأشعة السينية المعروفة باسم أشعة إكس، و حصل على جائزة نوبل فى الفيزياء عام 1901.

خلال ذلك المناخ المفعم بالمرارة، وبعد مضى ثلاثين عاما على الهزيمة، وبعد عامين من حصول رونتجن الألمانى على جائزة نوبل، أعلن رينيه بروسبير بلوندلوت (1849 ــ 1930) وهو واحد من أبرز علماء الفيزياء الفرنسيين وعضو أكاديمية العلوم الفرنسية عن اكتشافه أشعة أطلق عليها اسم أشعة N على اسم جامعة نانسى حيث كان يشغل منصب أستاذ الفيزياء بها، و منحته الأكاديمية الفرنسية للعلوم جائزة لالاند. و بعد نشر اكتشافه العلمى نشر عدد من الفيزيائيين ما يدعم ذلك الاكتشاف.

وتذكرت كلمة قرأتها لعالم الفيزياء الأمريكى ميخائيل ويثريل مدير مؤسسة فيرميلاب يقول فيها إن أول ما يهتم بترسيخه لدى تلاميذه الشبان هو تنبيههم لصعوبة وضرورة الاحتفاظ بأنفسهم بمنأى عن التحيزات اللاشعورية.

لقد حدث ذلك فى مجال الفيزياء، وهى كما يقال ملكة العلوم، ولم يكن بلوندلوت كاذبا ولا مدعيا؛ بل كان متحيزا لوطنه ولجامعته تحيزا جعله يرى ما ليس موجودا؛ و نظرا للطابع «الوطنى» لتحيزه فقد شاركه فى رؤية ما ليس موجودا عدد من أبرز علماء الفيزياء الفرنسيين. وقد حدثت أمور شبيهة بذلك فى مجالات علمية لا حصر لها، و فى بلاد عديدة؛ ولعل بلادنا لم تكن استثناء. ونخلص من ذلك إلى أن تعرض الباحث العلمى لخطر التحيز ليس بالأمر القاصر على البحث العلمى فى مجال السلوك الإنسانى فحسب، بل إنه خطر تتعرض له مجالات العلوم جميعا مادام أن القائمين بالبحث بشر لهم آمالهم ، وأحلامهم ، وآراؤهم، ورغباتهم، ولهم بالتالى تحيزاتهم الشخصية و الدينية و الوطنية.

أما صعوبة التجريب فى مجال علم النفس فهى أيضا ليست بالخاصية القاصرة على ذلك العلم دون سواه، بل إن العوائق الأخلاقية والموضوعية التى تحد من انطلاق التجريب فى مجال دراسة السلوك الإنسانى تكاد تكون هى بذاتها نفس العوائق التى تحد منه فى مجال الطب مثلا؛ بل إن علوما قائمة لا شك فى علميتها تقوم على الملاحظة المنضبطة والاستنتاج المنطقى مثل علوم الفلك والرياضيات، والقضية فى النهاية هى تأكيد امكانية تخطى تلك العوائق تحطيما أو التفافا، وبأساليب تختلف من مجال علمى إلى مجال آخر.

خلاصة القول إن علم النفس، شأنه شأن أى علم آخر، يختلف عن بقية العلوم من حيث طبيعة القوانين النوعية التى تحكم الظواهر التى يتعرض لدراستها، ويتفق بدرجة تزيد أو تقل مع بقية العلوم فيما يتعلق بمشكلات المنهج العلمى ومناهجه وأسسه، ثم إن الظواهر المتعلقة بالسلوك الانسانى تخضع فى النهاية لما تخضع له كافة ظواهر الكون من قوانين عامة تنتظمها جميعا ولا مبرر إذن للحكم بأن الصعوبات التى تواجه المشتغل فى مجال علم النفس أكثر تعقيداً من تلك التى تواجه المشتغلين فى غير ذلك من المجالات.

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/627558.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *