علم النفس المثير للجدل (3)

انتهينا فى مقالنا السابق إلى رصد أهم وأبرز الصعوبات التى يقدمها العديد من الزملاء المتخصصين فى علم النفس، ويرتكنون إليها فى إصدار حكمهم بأن علم النفس «أصعب» من غيره من العلوم موضوعا ومنهجا. وقبل أن نعيد النظر فى تلك الصعوبات، ينبغى علينا قبل ذلك أن نؤكد أن لكل علم صعوباته الخاصة التى يواجهها، والتى سوف يظل يواجه صورا مختلفة منها طالما استمر فى طريق التطور،. ولنعد من جديد إلى تناول قضية الصعوبات المميزة لعلم النفس محاولين فى ضوء ما ذكرنا؛ تبين ما إذا كانت بحق مقصورة على علم النفس دون غيره من العلوم، بادئين بالصعوبتين المتعلقتين بالموضوع وهما التفرد والتغير.

ولنا أن نتساءل فيما يتعلق بالصعوبة الأولي، هل صحيح أن تفرد أو عدم تشابه وحدات موضوع البحث يعد صعوبة لا تواجه سوى المشتغل فى مجال السلوك الإنساني؟ فلنلق بنظرة الى علم البيولوجي، ألم يكن الجمع بين الأميبا والإنسان، وبين الديناصورات والنمل، وبين النسور والحيتان، باعتبارها جميعا كائنات حية أمرا تعترضه صعوبات شتى على رأسها تعدد أوجه الخلاف و«التفرد» بين كل من تلك الكائنات؟ لقد ظلت تلك الصعوبات قائمة بأشكال مختلفة إلى أن تمكن علماء البيولوجى من وضع أيديهم على اكتشاف الخلية وتركيبها وقوانينها باعتبارها الوحدة الأساسية التى تتكون منها أو بواسطتها جميع الأنسجة والأعضاء، ولم يكن ممكنا التوصل إلى مثل ذلك الاكتشاف إلا إذا سلم العلماء منذ البداية بأن وراء «تفرد» تلك الكائنات وتعددها، تكمن خاصية مشتركة تجمعها جميعا باعتبارها «كائنات حية»، وأن التوصل إلى تحديد تلك الخاصية تحديدا موضوعيا، يعنى إمكانية التوصل إلى فهم القوانين العامة التى تحكم ذلك المجال كالجوع و التكاثر والموت إلى آخره. ويبدو أن الموقف فى علم النفس يحمل الكثير من أوجه الشبه مع ذلك الموقف. فعلماء النفس يسلمون حتما بإمكان التوصل إلى القوانين العامة التى تحكم السلوك الإنسانى والتنبؤ بمساره، وذلك يعنى بداهة أن تفرد سلوك الأفراد ليس تفردا مطلقا لا ضابط له ولا رابط. إن اختلاف استجابات الأفراد للمواقف المحبطة وفقا لإدراكهم لتلك المواقف وتفسيرهم لها وطبيعة تنشئتهم الاجتماعية لا ينفى أن البشر جميعا يخضعون لقانون سلوكى علمى واحد هو أن الإحباط يؤدى إلى العدوان. وبالتالى فليس هناك مبرر قوى لافتراض أن ذلك التفرد أو الفروق الفردية التى تميز البشر؛ يختلف عن نظيره فى الظواهر المتعلقة بالعلوم الأخري، والخلاصة أن تخطى الفروق والاختلافات بين الوحدات بل وتفسير تنوعها، أو بعبارة أخرى تخطى «التفرد» وصولا إلى «الوحدة» التى تنظم مجموعة من الظواهر فى قانون واحد، يعد سمة تميز كل علم بل تكاد تكون مبررا لوجوده سواء فى ذلك علم النفس وعلم الكيمياء وغير ذلك من العلوم. ولو انتقلنا إلى الصعوبة الثانية المتعلقة بالموضوع، أعنى خاصية التغير أى تغير السلوك الإنسانى بتغير الأزمنة والأمكنة، سلوك الفرد يختلف عبر مراحل العمر خلال النمو؛ كما يختلف أيضا عن سلوك أقرانه من نفس العمر فى سياقات حضارية مختلفة؛ كما يختلف الأمر أيضا بالنسبة لتغير العادات و التقاليد بل والمعتقدات عبر الأمكنة والأزمنة. غير أن تلك الخاصية بدورها ليست مقصورة على السلوك الإنسانى فحسب، صحيح أن التغير فى السلوك الإنسانى يتخذ صورة تختلف سرعة وعمقا عن صورته فى غير ذلك من الظواهر، ولكن لا شك كذلك فى أن التغير خاصية تشمل ظواهر الكون جميعا، والموقف الذى يواجهه العلماء جميعا هو حصر صور هذا التغير، تمهيدا للبحث فى مسبباته. والأمر يختلف من تخصص علمى إلى آخر؛ فعالم النبات مثلا مطالب بملاحظة اختلاف النباتات نوعا وشكلا من مكان إلى آخر، وملاحظة دورة حياة النبات الواحد أى تغيره من يوم إلى آخر، أى تغيره بتغير الأزمنة الى جانب تغيره بتغير الأمكنة، كل ذلك تمهيدا لتفسير تلك التغيرات أى اكتشاف العوامل المسببة لها. وكذلك الحال بالنسبة لعالم النفس فهو مطالب بملاحظة اختلاف وتغير السلوك الإنسانى بتغير الوسط الحضارى أو الأمكنة، ومطالب كذلك بملاحظة اختلافه وتغيره بتغير الأزمنة. خلاصة القول إن التغير شأنه شأن التفرد قوانين شاملة لظواهر الكون جميعا وليست خواصا تميز السلوك الإنسانى بالتحديد، وإن كان ذلك لا ينفى أن الصور التى يتخذها ذلك التغير تختلف من مجال علمى إلى مجال علمى آخر. ولا يقتصر الأمر ـ كما سبق أن أشرنا ـ على اختلاف وليس صعوبة موضوع دراسة علم النفس؛ بل يمتد إلى ما قد يبدو صعوبات تعترض إمكانية اعتماد دراسة علم النفس للسلوك على المنهج العلمى من حيث صعوبة التناول المباشر لموضوع البحث؛ وكذلك مشكلات إجراء التجارب على الظواهر السلوكية؛ وأخيرا مخاطر تحيز الباحث فى مجال علم النفس لموضوع بحثه خاصة إذا كان يتصدى للمقارنة بين جماعته وغيرها من الجماعات، باعتباره جزءا من ذلك الموضوع.

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/625335.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *