فى خضم ما تعانيه بلادنا من رصاصات الإرهاب؛ يبدو للبعض أن سبيلا من سبل العلاج هو التقدم العلمي؛ ويصل الأمر بهم إلى طرح تطوير مناهج التدريس فى مجال العلوم «المنضبطة» فى مقابل ما يرونه من جمود فى مناهج التدريس فى المؤسسات الدينية وما يرونه من «نسبية» تميز العلوم الإنسانية؛ محاولين إدراج سعيهم ضمن منظومة مواجهة الفكر الإرهابي.
ويكون المقصود بالعلم لديهم تخصصات محددة كالفيزياء والكيمياء وكذلك الطب والهندسة فى مقابل تخصصات أخرى يخرجونها من دائرة العلم كالاجتماع وعلم النفس والفلسفة وبقية ما يعرف بالعلوم الإنسانية. ويستندون فى دعواهم إلى أننا نستورد من الغرب منتجات تلك العلوم من الإبرة إلى الصاروخ، ولذلك رسخ لدينا أن إتقان دراسة تلك المقررات العلمية كفيل بدفعنا للحاق بركب الدول المتقدمة ومن ثم «تجفيف منابع الإرهاب».
ولكن يغيب عن تلك الرؤية أن التقدم لا يمكن تجزئته بمعنى أننا لا نستطيع أن نحرز تقدما فى العلوم الطبيعية ونظل على تخلفنا فى العلوم الإنسانية، فالغرب الذى نسعى للحاق به متقدم فى المعرفة العلمية بشقيها، وربما كانت الفجوة التى تفصلنا عنه فى العلوم الإنسانية أوسع بكثير من تلك التى تفصلنا عنه فى العلوم الطبيعية؛ وقد أسهم التقدم الغربى فى العلوم الإنسانية فى تطوير نظرته إلى الدين وموقعه من الحداثة.
لقد أتيح لى قدر من التعمق الأكاديمى المتخصص فى «مناهج البحث وتصميم البحوث» وقد تمكنت فى مطلع السبعينيات خلال إنجازى رسالة الدكتوراه من التوصل إلى أسلوب فى البحث العلمى لم يكن مطروقا آنذاك، وهو أسلوب «إعادة التركيب» وظللت على صلة وثيقة بذلك الفرع خلال تدريسى له فى عدد من أقسام علم النفس فى الجامعات المصرية لما يزيد على أربعين عاما.
و خلال تلك المسيرة أتيحت لى فرصة استثنائية نادرة، إذ دعانى أصدقاء أفاضل لإلقاء عدد من المحاضرات لطلاب الدراسات العليا فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس، وكليات الطب فى جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر؛ وبطبيعة الحال لم يكن لتلك الخبرات الاستثنائية أن تحدث لو لم يسعدنى الحظ بصداقة عدد من العلماء الكبار المتخصصين فى تلك الفروع العلمية والذين اتسعت رؤيتهم للتعرف على ما ينقص طلابهم آنذاك؛ أذكر منهم من أساتذة الطب النفسى الصديق الراحل عادل صادق والصديق الراحل محمد شعلان والصديق العزيز يحيى الرخاوى و كذلك أستاذ الهندسة المعروف حامد الموصلي.
لقد اكتشفت خلال تلك اللقاءات أن هؤلاء الأبناء – الذين أتاح لهم تفوقهم العلمى الالتحاق بتلك الكليات العلمية المتخصصة واجتياز سنوات الدراسة فيها بنجاح يؤهلهم للالتحاق بالدراسات العليا – لم يتلقوا عبر كل مراحل تعليمهم من رياض الأطفال إلى الحصول على الدكتوراه مقررا واحدا يحمل اسم المنطق أو مناهج البحث أو طرق التفكير العلمى أو تاريخ العلوم، باعتبارها جميعا تدخل ضمن تخصصات «التعليم الأدبي» وتحديدا «الفلسفة» ومن ثم فقد تعجب بعضهم من النظر إلى مادة «مناهج البحث» باعتبارها علما متخصصا يتطلب دراسة أكاديمية متخصصة؛ وتساءلوا: ترى ما حاجة «تخصصنا العلمى المنضبط» لدراسة «نظرية» لموضوع لا يتصل مباشرة بأسرار المواد الجامدة و الحية؟ ألا يعد ذلك نوعا من التفلسف لا حاجة لنا به؟ ثم ما علاقة علمنا الصارم الدقيق اليقينى الذى لا يعرف سوى لغة الأرقام بحديث عن الفروض والاحتمالات ونظريات المصادفة وأسس التفكير والتحليل المنطقى وما إلى ذلك؟
وبذلت ما وسعنى من جهد لإبراز حقيقة أن الإلمام بمناهج البحث و قواعد الاستدلال والتفكير المنطقي، هو الذى يفرق بين الإبداع العلمى والإتقان الحرفي، و أن جوهر الإبداع العلمى يقوم على الشك فيما هو مستقر ومحاولة تجاوزه، فى حين لا يتجاوز الإتقان الحرفى حدود الالتزام بأصول الصنعة كما سبق تعلمها.
لقد تعاطفت مع هؤلاء الأبناء و التمست لهم العذر، فقد كان طبيعيا فى ظل نظام تعليمى لا يتضمن مقررا دراسيا واحدا يحمل شبهة دراسة المنهج العلمى القائم على الشك و قواعد تفنيد الأفكار، أن ترسخ لدى هؤلاء الأبناء عقيدة مؤداها أن التفكير لا يحتاج إلى تعليم أو تدريب، وأن تمحيص الأفكار الثابتة تزيد لا معنى له، وأنه يكفى للتسليم بصواب فكرة معينة أن تبدو منطقية، أو أن تصدر عن مصدر ثقة، أو أن تتفق مع مشاهدات «واقعية» أو أن تكون متكررة لزمن طويل.
وحين أنظر اليوم إلى أبنائنا من دارسى العلوم الإنسانية أجد أن ذلك الوباء قد تمكن منهم؛ فأصبحت غالبيتهم أسرى لما يلقيه الأستاذ ضمن «المقرر» باعتباره كل الحقيقة.
لقد تشربنا مناخا ثقافيا تسوده اليقينية، يسانده مناخ إعلامى يغلب عليه الطابع الغوغائى الرجعي، وانعكس ذلك كله على مضمون المقررات التى يدرسها أبناؤنا بحيث أصبحت تقوم على انتقاء أشد التأويلات جمودا وتطرفا من التراث الدينى والوطنى بل والعلمى أيضا، باعتبارها التأويلات الأنسب للحفظ والاسترجاع والتى تريح الجميع من مشقة التفكير الإبداعى الناقد. ولم يكن غريبا والأمر كذلك أن نجدنا حيال نسيج فكرى تتضافر فى تغذيته مكونات ثلاثة مترابطة تشكل الأرضية الفكرية الراسخة للممارسات الإرهابية: احتكار الوطنية واحتكار المعرفة العلمية واحتكار التأويل الديني.