تقول الحكمة الشعبية «العند يورث الكفر» ولعل ذلك الربط الشعبى العبقرى بين العند والكفر يشير إلى أن ما يجمع بينها هو الإنكار.
إنكار التغير مهما يكن صارخا، والاستعلاء على الاعتراف بالخطأ والتمسك به، والإصرار على رأى أو موقف محدد مهما ترتب على ذلك الإصرار من كوارث للفرد أو للمجتمع على حد سواء. ولما كانت للمصطلحات سمعتها الاجتماعية شأن الأفراد، ونظرا لأن صفة «العند» قد اكتسبت سمعة سلبية منفرة، فقد لجأنا كما هو معتاد إلى إلصاقها بغيرنا، أما إذا ما تعلق الأمر بنا فإننا نبادر بعمليات التجميل المعروفة والتى يتحول بها «العند» إلى «ثبات على المبدأ» أو «عدم الخضوع للضغوط و التهديدات» أو «عدم التهور والاندفاع» أو «أن الآخر كان البادئ بالخطأ» أو «القول بأن الجميع فى كافة أنحاء العالم يتصرفون هكذا» أو «أن ما حدث أمر تافه بسيط لا يستحق الاعتذار عنه» إلى آخر تلك المسميات الجميلة ذات السمعة الطيبة؛ فإذا ما اضطررنا فلنعدل عن الخطأ فى صمت دون اعتذار، بأمل أن ننجح فى إخفاء الحقيقة الكريهة: إننا معاندون رغم أننا لا نكف عن أن نردد بألسنتنا أن ابن آدم خطاء.
لقد تباينت الحضارات عبر التاريخ مع تنوع العقائد الدينية والإيديولوجية وأنماط التنشئة الاجتماعية السائدة، فى تحديد السلوك الأمثل للاعتذار عن الخطأ: من مجرد طأطأة الرأس خجلا إلى الاعتراف بالخطأ أمام قس الاعتراف فى المسيحية، إلى التوبة النصوح فى الإسلام إلى النقد الذاتى الماركسى إلى الاعتذار علنا لمن أخطأ المرء فى حقه والقبول بتقديم الترضية المناسبة، سواء كانت مادية أو أدبية ؛ وكلما علت مكانة الفرد المخطئ كان لاعتذاره عن الخطأ دلالة مضاعفة حيث يضرب بذلك نموذجا لأفراد الجماعة.
لقد كانت كراسات وزارة المعارف العمومية فى السنوات الغابرة تخصص غلاف الكراسة للحض على بعض الفضائل مثل «إذا طلبت من أحد شيئا فقل له من فضلك» و«إذا أعطاك أحد شيئا فقل له أشكرك» و«إذا أخطأت فقل أنا آسف» ويبدو أن كل ذلك كاد أن يختفى من حياتنا اليومية مع اختفاء تلك الكراسات إن الميل إلى الكبر والعزة بالإثم واعتبار الاعتراف بالخطأ دليلا على الضعف والهوان.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الهروب من الاعتراف بالخطأ إنما يضر بالمعتدى عليه أو بمن وقع عليه الخطأ فحسب، ولكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، فالطرف الذى يأبى الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه مستسلما ليقين زائف بأنه لم يصدر عنه خطأ أصلا، يكون أول وأخطر ما يخسره هو ما يطلق عليه «استخلاص الدروس من الخبرات السابقة» و من ثم عجزه عن التقدم والإنجاز بسبب استمراره فى اتباع السلوك الخاطئ. إن نظرة إلى واقعة اعتذار نادرة فى تاريخنا الحديث كفيلة بتأكيد كل ذلك. لقد أعلن الزعيم عبدالناصر وهو من هو على رؤوس الأشهاد أنه إذ يتنحى عن منصبه مستعد لتحمل المسئولية كاملة عن كارثة يونيو 67 المروعة. إن أحدا لم يعتبر ذلك الإعلان الواضح عن تحمل المسئولية الكاملة عن تلك الأخطاء المروعة التى أدت للهزيمة، نقيصة تشين عبد الناصر، بل كان ذلك الاعتراف بالخطأ بمثابة البداية الموضوعية لتصحيحه. ولو تخيلنا مسارا آخر للأحداث يعلن فيه عبد الناصر أننا قد نجحنا فى الحيلولة دون أن يحقق العدو هدفه بتحطيم النظام الوطنى الثورى المصرى و بذلك فإننا قد انتصرنا بالفعل. ترى هل نتصور ما كان يمكن أن يحدث لو سارت الأمور وفقا لذلك السيناريو المشئوم؟ .
الجميع يتحدثون ويسجلون أخطاء ومصائب لا حصر لها، ولكن أحدا لا يتحدث عنها مطلقا بضمير المتكلم. كذلك الحال بالنسبة لكافة كوارثنا صغرت أو كبرت. المتحدث أيا كان لم يخطئ مطلقا، وكل الأخطاء مصدرها آخرون، ولا يقتصر الأمر على القضايا ذات الطابع الجماهيرى السياسى القومي؛ بل إنه يكاد يصبح جزءا من النمط السلوكى العام الذى يشمل الجميع كبارا وصغارا فى مختلف جوانب حياتنا اليومية. لقد أولينا ظهورنا لما يمكن أن نسميه «ثقافة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه» وغلبت علينا «ثقافة المكابرة والنفور من الاعتذار»
يندر أن نجد رياضيا أو تلميذا أو موظفا أو صانعا أو زوجا أو زوجة يجد لديه الشجاعة للاعتذار معترفا علانية أنه أخطأ وقصر؛ بل وينتفض المرء غضبا إذا ما ألمح لهم أحد أنه مخطئ. ويصبح طبيعيا والأمر كذلك أن تتصاعد بيننا ممارسات التخاذل والاستكانة والنفاق واصطناع شتى الأساليب ووالحيل لإقامة جدار سميك من المداراة يحول دون غضبة من نخشى غضبتهم إذا ما واجهناهم بأخطائهم.
ولكن ينبغى ألا يغيب عنا أن جدار المداراة مهما بلغ سمكه لا بد وأن ينهار لحظة أن نلمح ما يشى ببوادر ضعف مصدر الخوف؛ وعندها ينفجر بركان غضب مدمر لا تطفئ حممه آنذاك مياه الاعتذار مهما كان صدقها وبلغت قوتها.
خلاصة القول إن بداية أى إصلاح حقيقى تتمثل فى تدعيم ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ؛ ورحم الله من قال «اللهم اجز عنا خيرا من أهدى إلينا أخطاءنا».