تناقض موهــوم «2»

عرضنا فى المقال السابق لعدد من أوجه التطابق اللافتة التى تجمع بين الدولة العقائدية الدينية والدولة العقائدية العلمانية؛ ومن أبرز تلك التطابقات أن كلتا الدولتين تقوم على نص مسبق مكتمل، وإذا كان منطقيا أن الدولة العقائدية الدينية تقوم على كتب سماوية إلهية خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع السياسى الاجتماعى التاريخي؛ فإنه من اللافت أن يحظى الكتاب المؤسس للدولة العقائدية العلمانية بتلك المسحة اللاهوتية التى تكاد تغلف ذلك النص البشري. لقد كتب كارل ماركس (1818-1883) كتابه الشهير «رأس المال» وأصدر عام 1848 بيانه الشهير «البيان الشيوعى» ووضع أسس المادية الجدلية والمادية التاريخية؛ ثم جاء لينين (1870-1924) الذى اعتنق الماركسية بعد رحيل مؤسسها ليقيم الدولة العقائدية الماركسية فى روسيا. وإذا كان البعض يتوجس من الدعوات المعاصرة لإحياء الخلافة الإسلامية؛ مستعيدا ذكريات بحور الدماء التى نزفت خلال تقاتل المسلمين عبر التاريخ الطويل للخلافة الإسلامية منذ الفتنة الكبرى التى ارتفعت فيها صيحة «كان قتال على التنزيل واليوم قتال على التأويل»؛ وكيف استمر نزيف الدم مصاحبا لانتقال سلطة الخلافة من الأمويين إلى العباسيين حتى العثمانيين عبورا بخلافة الإمام الغائب الإيرانية؛ فإننا لا نجاوز الحقيقة كثيرا إذا ما خلصنا إلى أن الطابع الدموى للصراع كان لصيقا بالدولة العقائدية عبر التاريخ؛ دون نظر إلى طبيعة التصور النظرى الذى تقوم عليه، يستوى فى ذلك سعى الكنيسة الكاثوليكية فى العصور الوسطى لتوحيد التأويل المسيحى للكتاب المقدس، وسعى لينين ثم ستالين لإقامة دولة تقوم على النظرية الماركسية ويتوحد تحت رايتها عمال العالم، ولعل مرجع ذلك إلى اعتقاد أنصار الدولة العقائدية باحتكارهم الحقيقة المطلقة والخير المطلق وبأن كل معارض لنهجهم خائن يستحق الإقصاء قتلا أو تهجيرا أو تعذيبا. ولا يعنى ذلك بحال أن شهوة الدماء كانت مقصورة على أصحاب الدعاوى العقائدية دون غيرهم؛ ولكن المفارقة تتمثل فى أن تلك الدعاوى العقائدية يغلب على نصوصها المؤسسة دعوات الخير والفضيلة والسلام. لقد تصدى لينين لتجسيد الحلم الماركسى على الأرض؛ وما إن شرع فى إقامة الدولة حتى عارضه كارل كاوتسكى (1854-1938) أحد زعماء الحركة الأممية الثانية فى مطلع القرن العشرين وأحد أبرز المنظرين الماركسيين فى أوروبا وبقية العالم حتى أنه كان يلقب «بابا الماركسية» انتقد كاوتسكى ممارسات لينين باعتبارها ممارسات دكتاتورية تهدد حلم الدولة الماركسية؛ وأن البلاشفة بقيادة لينين ليسوا سوى منظمة تآمرية أسست ديكتاتورية جديدة لروسيا بعد ثورة أكتوبر لتحل مكان الديكتاتورية القيصرية القديمة، وبدلاً من الانتقال إلى المجتمع الاشتراكى تم الانتقال إلى مجتمع تسيطر عليه البيروقراطية، تفوق مآسيه مآسى المجتمعات الرأسمالية الغربية. وغنى عن البيان أن كاوتسكى لم يخرج على النص المؤسس الذى جاء به كارل ماركس؛ ولكنه اختلف فحسب مع تأويل لينين لهذا النص، وسرعان ما هاجمه لينين بشراسة وأصدر بشأنه كتابا بعنوان «الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي» وتم إبعاد كاوتسكى خارج دولة الحلم الاشتراكى ليموت فى أمستردام.

واستقر الأمر للينين وكان خليفته المتوقع هو ليف دافيدوفيتش برونشتاين(1879-1940) الذى اتخذ بعد فراره من معتقل سيبيريا فى عهد القيصراسم ليون تروتسكى وهو اسم حارسه فى المعتقل. كان تروتسكى ماركسيا بارزا وأحد زعماء ثورة أكتوبر فى روسيا وأسند إليه لينين مفوضية الحرب حيث أسس الجيش الأحمر كما عينه مفوضا للعلاقات الخارجية عندما أسس حكومته البلشفية الأولي. وتوفى لينين فجأة ولم يكن تروتسكى فى موسكو وقت الوفاة فلم يحضر الجنازة، وأعلن ستالين (1878 – 1953) نفسه خليفة للزعيم الراحل وتمكن من عزل تروتسكى من عضوية المكتب السياسى للحزب بتهمة النشاط المعادى كما تم إعدام أنصاره فى الحزب وتم تهجير تروتسكى عام 1929 خارج الاتحاد السوفيتى ونزعت عنه الجنسية السوفيتية فانتقل إلى فرنسا ثم إلى الدنمارك والنرويج وهاجر عام 1936 إلى المكسيك حيث أقام فى منزل الفنان ديوغو ريفيرا مواصلا كتابة بياناته ومنشوراته المعادية للستالينية، ولقد وصف برنارد شو قسوة كتابات تروتسكى قائلا «عندما يقطع تروتسكى رأس خصمه ، لا يكتفى بذلك ، بل يحمل الرأس عالياً ويعرضه على الناس قائلاً : انظروا … لا يوجد دماغ داخله … وصدر حكم غيابى بإعدام تروتسكى بتهمة الخيانة العظمي، وقامت السلطات الستالينية بتكليف أحد رجالها المدعو رامون ميركادير الذى تمكن من كسب صداقته بعد اصطناعه اسما مزيفا وتمكن من تحطيم رأسه ببلطة فى 20 أغسطس 1940وقد حوكم القاتل وأدين ولكن لم يلبث أن أفرج عنه وعاد إلى بلاده حيث منح لقب بطل الاتحاد السوفيتي.

وغنى عن البيان مرة أخرى أن تروتسكى لم يخرج على النص المؤسس الذى جاء به كارل ماركس؛ ولكنه اختلف فحسب مع تأويل ستالين لهذا النص

لقد آثرنا مراعاة للمساحة المتاحة أن نقتصر على عرض نموذجين فحسب لقامتين ماركسيتين شامختين اختلفا مع التأويلات اللينينية الستالينية للنص المؤسس للماركسية فنالهما ما نال كل من اختلف مع تأويل السلطة للنص العقائدى المؤسس؛ وبطبيعة الحال لم يقتصر الأمر على أفراد فقد سحقت الدبابات الروسية والصينية شأنها شأن الخيول والسيوف والمقاصل الكاثوليكية و الأموية والعباسية والعثمانية آلاف الآلاف من الجماهير سواء فى ساحة تيانانمن فى الصين أو ساحة كربلاء فى العراق أو ميدان اللؤلؤة فى البحرين أو فى ثلوج سيبيريا وغيرها من الميادين والمدن.

 

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/537597.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *