دروس من خبرة التفاوض

خلال متابعتى لما يجرى على أرض سيناء أخيرا من مواجهات عسكرية عنيفة مع الجماعات الإرهابية؛ وما اقتضته تلك المواجهات من تدفق القوات المصرية العسكرية إلى سيناء؛ استعدت واقعة جرت منذ ما يقرب من عشرين عاما، فى 25 مارس 1997 شاركت ضمن مجموعة صغيرة تضم ثمانية من الأكاديميين والعسكريين من المتخصصين فى شئون الأمن القومي؛ فى جلسة مغلقة دعتنا إليها أكاديمية ناصر العسكرية لمناقشة مستقبل اتفاقيات السلام. كان السؤال الجوهرى المطروح هو : ما هى الظروف التى يمكن أن تؤدى إلى انهيار اتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل؛ وكان المسيطر على تفكيرنا آنذاك أننا نعنى بانهيار اتفاقيات السلام العودة إلى الحرب مع إسرائيل، ومضينا نناقش السيناريوهات المحتملة وتفصيلاتها ومترتباتها وموازين القوى الدولية والإقليمية؛ وقبل كل ذلك مسبباتها: ترى ما الذى يمكن أن يدفع بمصر إلى إنهاء حالة السلام والعودة إلى قتال إسرائيل. وأذكر أن الاتجاه العام للحوار لم يكن يستبعد بشكل مطلق انهيار تلك الاتفاقيات؛ ولكنه كان يعلق قرار الحرب على رصد استعدادات عسكرية إسرائيلية لا يمكن تجاهلها للهجوم على مصر. وتطرقت المناقشات بطبيعة الحال لضرورة التضامن مع الشعب الفلسطينى ومع الدول العربية وخاصة سوريا دون أن يدفعنا ذلك للتدخل العسكري. وكنا بطبيعة الحال لا نرى إمكانية وجود عسكرى مصرى فى سيناء يتجاوز ما تقضى به اتفاقيات السلام؛ مع تأكيد العسكريين أن الالتزام بتلك القيود لا يحول دون القدرة على الردع العسكرى إذا مااقتضى الأمر. استعدت ذلك كله عند متابعتى خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسى فى أسيوط والذى دعا فيه إلى استئناف مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية على أساس من مبادرات سابقة على رأسها المبادرة العربية؛ كما أكد أن استفرار السلام فى المنطقة يؤدى إلى ازدهارها؛ وأن ذلك السلام المستقر لن يتحقق إلا عبر اتفاق فلسطينى إسرائيلي؛ وأن تحقيق مثل ذلك الاتفاق يتطلب إنهاء الانقسام الفلسطينى، من ناحية أخرى توافق الأحزاب الإسرائيلية على القبول بالسلام.

ولم أجد جديدا فيما سبق؛ فالأطراف جميعا تتفق على جوهرية إنهاء الانقسام الفلسطينى والتوصل إلى سلام عادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين باعتبار ذلك أساسا لاستقرار وازدهار المنطقة. ترى ما الجديد الذى تضمنه خطاب السيسى إذن؟ وما دلالة توقيته

فيما يتعلق بالعلاقات المصرية الإسرائيلية ومعاهدة السلام مع إسرائيل؛ فقد خطا الرئيس خطوة أبعد ممن سبقوه. لقد حرص رؤساء مصر ابتداء من السادات عبورا بحسنى مبارك و محمد مرسى على إعلان الالتزام ببنود معاهدة السلام أو حتى إضغام الحديث بحيث يكون عن التزام مصر بجميع اتفاقاتها الدولية؛ كما أن الرؤساء السابقين كانوا يحرصون على تهنئة إسرائيل بعيدها القومى فى 15 مايو يوم النكبة العربية وأن يعبروا عن تمنياتهم الطيبة للدولة فى خطابات اعتماد السفراء دون نشر نصوص تلك الخطابات. ولذلك فلعلها المرة الأولى التى يشيد فيها رئيس مصرى فى خطاب علنى بالمعاهدة معلنا أن معاهدة السلام مع إسرائيل كانت بمنزلة صفحة بيضاء فى تاريخ المنطقة العربية والسلام العالمى مضيفا أن الخطوة التى اتخذتها مصر منذ 40 عاما بتوقيع معاهدة السلام، هى السر الحقيقى وراء السلام فى المنطقة و أنها كتبت فى تاريخ المنطقة العربية صفحة مضيئة للسلام بين الدول والشعوب.

من ناحية أخري، فإن اتفاقيات السلام التى تتضمن تحديدا متدرجا صارما للوجود العسكرى المصرى فى شبه جزيرة سيناء بتقسيمها إلى ثلاث مناطق محددة. وكانت تلك القيود محلا لاعتراضات وتحفظات الكثير من القوى الوطنية المصرية باعتبارها تخرج سيناء عمليا من نطاق السيادة المصرية الكاملة باعتبارها تحد من قدرة مصر على مواجهة واردة مع إسرائيل؛ وكانت إسرائيل من جانبها وطيلة سنوات لا تتوانى فى إبلاغ احتجاجاتها لممثلى القوات الدولية لحفظ السلام الموجودة فى سيناء وفقا لنصوص المعاهدة، ولم يكن يدور بخلد أحد أن تسمح إسرائيل تحت أى ظرف من الظروف بكسر تلك الخطوط؛ حيث كان مستقرا فى تقديرات الجميع أنه من المستحيل فى ظل ظروف السلام البارد بين مصر وإسرائيل أن توجد قوات فاعلة من الجيش المصرى فى المناطق المحظورة بحكم نصوص المعاهدة؛ ولم يقف الرئيس السيسى كما درجت القيادات المصرية المتتالية- عند حدود طمأنة إسرائيل لجدية تمسك الدولة المصرية بالسلام مع إسرائيل من خلال الالتزام الصارم بجميع بنود معاهدة السلام، ولكنه اعتمد على تغييرات جرت على الأرض أخيرا؛ فخلال المواجهات العسكرية المصرية للإرهاب توالى نشر قوات عسكرية مصرية مزودة بأسلحة ثقيلة فى تلك المناطق التى كانت محظورة؛ وبصرف النظر عن تقديرات القيادة الإسرائيلية التى دفعتها لعدم الاعتراض على ذلك الانتهاك الواضح لنصوص المعاهدة؛ فلاشك فى أن ذلك الانتهاك الذى جعل إسرائيل فى مرمى المدافع والطائرات المصرية دون أن تتجه طلقة واحدة ولو على سبيل الخطأ صوب إسرائيل؛ قد خلق حالة جديدة فى الشارع الإسرائيلي. حالة أشبه بالصدمة التى أحدثتها زيارة السادات للقدس؛ ولكنها كانت صدمة متدرجة لو صح التعبير؛ بدأت مع بداية المواجهات العسكرية المصرية مع الإرهاب وتصاعدت حتى بلغت ذروتها بخطاب الرئيس السيسى الأخير؛ ليكتشف الشارع الإسرائيلى ربما للمرة الثانية بعد زيارة السادات زيف أسطورة أن مصر هى التى تهدد إسرائيل فى مقابل حقيقة أن مصر كانت دوما هى المستهدفة للاعتداءات الإسرائيلية، ولعل ذلك هو مادفع الرئيس السيسى إلى توجيه خطابه إلى الشارع الإسرائيلى باعتباره المعنى أساسا باستقرار السلام.

لعلنا مازلنا بعيدين عن استقراء دقيق للمستقبل، فالأحداث مازالت تتوالي. ولعل أخطر ما يواجهنا أن عودة مصر للتطلع للعب دور إقليمى وخاصة فى ملف الصراع العربى الإسرائيلى يمثل تحديا خطيرا للعديد من القوى الإقليمية والدولية التى سعت وتسعى لإغراق مصر فى مشاكلها الداخلية وحصارها داخل حدودها؛ ومن المتوقع أن تزيد تلك القوى من جهودها التدميرية. من ناحية أخرى فإن الخبرات التاريخية فى اتفاقيات السلام تشير إلى أن نجاح مثل تلك الاتفاقيات مرهون بتخفيض مستوى الاعتراض عليها بمعنى ضمان قبولها لدى الأطراف الأكثر تشددا من الجانبين؛ ومن ثم فإن اتفاق السلام مأمول مستقر بين الفلسطينيين والإسرائيليين لابد وأن تسهم فى صنعه منظمة حماس من ناحية واليمين الإسرائيلى من ناحية أخرى بحيث لا يمكن المزايدة عليه مستقبلا. وهو الأمر الذى يبدو بعيد المنال حاليا خاصة على الساحة الفلسطينية المصرية.

 

المصدر: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/518297.aspx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *