الازدراء أمر كريه؛ فلا أحد يحب أن يتعرض لازدراء أو سخرية؛ وللفرد أن يستشيط غضبا وأن يرد بعنف على ما يعتبره ازدراء أو سخرية؛ فإذا أتيح لشخص أن يعرف ما أعتبره شخصيا تعبيرا عن ازدرائى والسخرية مني؛ فقد امتلك مفتاحا مهما يمكنه من التنبؤ بردود أفعالى ومن ثم تحريكى فى الاتجاه الذى يريده وفى التوقيت الذى يحدده. يكفيه أن يوجه لى نظرة أو عبارة أو إشارة أو حتى ابتسامة يعرف أننى أعتبرها ازدراء وسخرية لأنفجر غاضبا مدمرا ما أمامى دون اعتبار لمصلحة، أو مراعاة لظروف.
ولذلك لم يكن عبثا أن تحض كافة الديانات والعقائد على ضرورة السيطرة على الغضب. «ليس القوى بالصرعة، بل من يملك نفسه عند الغضب» «الحقد والغضب كِلاهما رجسٌ، والرجل الخاطئ متمسك بهما». «لا تغضب ولك الجنة». «غضب الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ». ولعل ذلك الإلحاح على التحذير من الغضب كان من الأسباب الجوهرية التى ساعدت على انتشار الأديان. لقد تعرض الدعاة الأوائل للعقائد والأديان جميعا لأقسى أنواع الازدراء والاحتقار؛ وكانت استجابتهم الهادئة «العقلانية» هى الطريق الذى عبرت عليه العقائد الدينية من السماء إلى قلوب البشر. ولو تخيلنا أن الدعاة الأوائل من الرسل والأنبياء كان يتملكهم الغضب من الازدراء والإهانة واستجابوا بالغضب والعنف بدلا من الحوار والعقل والمنطق لاندثرت الأديان والعقائد جميعا. لقد كانوا جميعا على يقين أنهم يحملون رسالة السماء؛ وأن الله لابد ناصرهم؛ ولكنهم كانوا يقولون قولا جميلا لأعدائهم حتى الذين طغوا بل وتألهوا.
الحوار الهادئ والاستماع للرأى الآخر مهما يكن متجاوزا جارحا كان الطريق الآمن لانتشار العقائد والأديان فى العصور الأولى الأقرب إلى النبع الأول الصافي. ولكن يبدو أنه مع مرور الزمن ابتعدنا عن ذلك الطريق الآمن؛ واتسعت الشقة بيننا وبين عصر أولئك الدعاة الأوائل الذين اطمأنوا إلى رسوخ دينهم و « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ». واستولى على كثير من دعاتنا المحدثين بل ومؤسساتنا الدينية على تنوع انتماءاتها العقائدية هاجس أن الدين موشك على الانهيار؛ وأن حمايته تتطلب المبادرة بسحق من يزدرونه؛ مغفلين أنهم بذلك يسيرون فى عكس اتجاه الرواد الأوائل آخذين الدين الذى يظنون أنهم يدافعون عنه إلى هاوية سحيقة.
ولنتأمل المشهد الراهن: لنفترض أن شابا مصريا مسلما يتابع على مواقع التواصل الاجتماعى وعلى صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفاز تلك الضجة الهائلة حول تهمة ازدراء الأديان؛ وتتردد أسماء الباحث السجين إسلام بحيرى بتهمة ارتكاب جريمة ازدراء الدين الإسلامى من خلال تصريحاته المشككة فى صحة بعض الأحاديث النبوية، وفى عصمة أئمة المذاهب الأربعة، وكذلك الكاتبة المهددة بالسجن فاطمة ناعوت التى عبرت عن سخريتها من شعيرة ذبح الأضاحي؛ وكيف أنهما بذلك قد ازدريا الدين الإسلامى واستحقا العقوبة بالسجن والغرامة. ترى كيف يتصرف ابننا الشاب إذا ما راودته مثل تلك الأفكار؟ ليس أمامه سوى أن يعلنها ويصرح بها فينضم إلى قائمة المتهمين المهددين بالسجن؛ أو أن يؤثر السلامة فيصمت خوفا ولكن تظل شكوكه على ماهى عليه بل قد تظل تتوالد وتتكاثر داخله فيزداد خوفا ويزداد صمتا؛ أو أن يدعى الإيمان نفاقا وكذبا ومجاراة.
ترى هل يسعدنا باعتبارنا مسلمين أن تمتلئ صفوفنا بخائفين يترقبون تراخى قبضتنا، أو بمنافقين تكتظ بهم ساحاتنا ومساجدنا رافعين أصواتهم مهللين مكبرين، ثم لا يلبثون أن يولونا ظهورهم إذا ما احتجنا إليهم.
وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة علمية ثابتة وهى أن شخصية المرء كل متكامل؛ بحيث يصعب أن نتصور فردا منافقا كاذبا فى موقف، شجاعا صريحا مخلصا فى موقف آخر؛ فإننا بذلك الموقف من «ازدراء الأديان» نرسى لدى هذا الشاب وأبناء جيله أنه لكى يتعايش فى المجتمع عليه أن يكتم تساؤلاته داخله، وأن يظهر غير ما يبطن، وأن يولى ظهره لكل ما قد يوقعه فى مساءلة.
ترى هل من سبيل آخر؟ لقد شهدنا حوارا علنيا بين إسلام بحيرى وواحد من شيوخ الأزهر؛ ترى هل قام أحد برصد تأثير ذلك الحوار؟ الأمر لا يخرج عن واحد من احتمالات ثلاثة: أن تكون غالبية الجمهور قد مالت إلى ترجيح رؤية ممثل الأزهر، فتتقلص جماهيرية الرأى المعارض؛ أو أن تتأرجح النسبة بين مؤيد ومعارض؛ أو أن يحدث العكس فيميل غالبية الجمهور إلى الرأى المعارض. فى الحالة الأولى نطمئن إلى حجتنا ونمضى قدما فى ترسيخها؛ وفى الحالة الثانية يصبح لزاما علينا مراجعة أسلوبنا فى الحوار لكسب مزيد من المتعاطفين؛ وفى الحالة الثالثة يصبح علينا العودة لمصادرنا ودراسة أسباب نفور جماهيرنا المسلمة من مواقفنا. فى كل حالات الحوار تكون الأطراف جميعا مستفيدة حيث تزداد معرفة الجميع بحجج الطرف الآخر فيحسن من طرحه أو يعود عن اقتناعه الأول.
لقد ضاق الكثيرون ولعلى منهم بحكم تكوينى الشخصى باستخدام لغة السخرية والتهكم فى حوارات ينبغى أن تكون جادة؛ ولكنى أستدعى مواقف الأنبياء والرسل وما واجهوه من سخرية وتهكم واتهامات بالعته والجنون والسحر بل وإلقاء القاذورات على رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا كان رد فعله وهو قدوة المسلمين؟ لقد اتخذ عليه السلام سبلا ثلاثة: إعراض عن الجاهلين؛ وحوار بالقول اللين؛ والدعاء لهم بالمغفرة لأنهم لا يعلمون. ترى لماذا لم يسأل الله عز وجل أن يدمرهم تدميرا؟