مقدمة
أثناء محاكمات نوفمبر الشهيرة التي أدارها الحلفاء لمحاكمة القيادات النازية بعد الحرب العالمية الثانية، انفجر “هملر” ـ نائب أدولف هتلر ـ بموجة من الضحك عند عرض خطاب زعيمه في ميونيخ قبيل اندلاع الحرب حيث تناول “هتلر” زعماء العالم بتعابير مغرقة في الشعبية وقدم عرضاً هزلياً مميزاً سخر فيه من رؤساء فرنسا وانكلترا والولايات المتحدة. والواقع هو أن استخدام التعابير المفرطة في شعبيتها والخارجة عن المألوف في لغة التخاطب هي من الصفات الملازمة للقائد الشعبوي والديماجوجي.
لعل الخطوة الأولي في دراسة الشعبوية هي التوصل إلى تحديد لمصطلح “الشعبوية”، وللخصائص التي تميز ما يعرف بالحركات الشعبوية. وقد قدمت الباحثة كريستال ديويكس Christa Dewisk في دراسة بعنوان “الشعبوية” استعراضا لتطور المفهوم النظري، خلصت فيه إلى تحديد المعالم الرئيسية للحركات التي يطلق عليها “شعبوية”
ركزت كريستا في دراستها على خصائص الخطاب الشعبوي وكيف أنه يتميز بالتبسيط الشديد للقضايا المعقدة، وإبراز أن ثمة استقطاب حاد بين “الشعب” وبين طرف آخر داخلي أو خارجي هو “العدو” المسئول عن كافة المشاكل التي يعانيها الوطن. ومن ثم يقوم القائد الشعبوي بتوجيه خطابه إلي رجل الشارع البسيط غير المسيس باعتباره “الشعب”؛ كما يتميز الخطاب أيضا بالنبرة العاطفية العالية التي تؤجج لدي الجماهير المشاعر والانفعالات الملتهبة من خوف إلى ابتهاج إلى غضب في إطار حتمية تدمير “أعداء الشعب” والقضاء عليهم.
الشعبوية يمكن تعريفها كإيديولوجية، أو فلسفة سياسية أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير لحشدهم في مواجهة “العدو”. حيث يعتمد بعض المسؤولين على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية. وبذلك فإن الخطاب الشعبوي يختلف كثيرا عن الخطاب السياسي العقلاني الذي يقوم على تقديم الأرقام والبيانات مخاطبا عقل المتلقي أساسا بأكثر من مخاطبة عواطفه.
وليس من شك في حاجة القائد إلي مساندة جماهير الجماعة التي يتصدى لقيادتها، وإذا كان القائد “العقلاني” يعتمد على مخاطبة عقول الجماهير وتوعيتها بحقيقة المواقف التي تحيط بهم ويدعوهم إلى مشاركته التفكير في سبل مواجهتها والتعامل معها؛ فإن القائد الشعبوي يراهن –على العكس-على تعطيل قدرة الجماهير على التفكير بإثارة عواطفها وانفعالاتها؛ ولذلك فإن نموذج القائد الشعبوى يتداخل كثيرا مع نموذج الداعية الإيديولوجي أو الديني.
وقد رأينا في بلادنا وفي غيرها الكثير من القادة الشعبويون يبدؤون خطاباتهم بالقراءة من نص مكتوب؛ ونظرا لأنه غالبا ما تتحكم الورقة والقلم في فرض قدر ما من عقلانية الخطاب، فإننا نشهد القائد الشعبوي بعد قليل من القراءة يلقي بالخطاب المكتوب ليخاطب الجماهير “بلغتهم”، فترتفع صيحاتهم وهتافاتهم وتهليلهم، ولتلك اللغة في الخطاب الشعبوي عدد من الخصائص المحددة لعل على رأسها:
تضخيم الصورة الذهنية للجماعة المقصودة باعتبارها “الشعب” الأرقي والأقدر الذي لا تنال منه الرياح ولا الأعاصير؛ والذي يختلف تماما عن أعدائه المجرمون الذين يتآمرون عليه، وأنه لا بد منتصر عليهم في النهاية؛ وأن ذلك الانتصار رهين بالالتزام برؤية القائد التي تعبر عن المصالح الحقيقية للجماهير.
يعتمد الفكر الشعبوي إذن على نزعة تجنح لتقديس الشعب وحسبانه مستودع الحقيقة المطلقة ومناط الخلاص النهائي من شرور العالم، وأن ما يقوله الشعب هو القول الحق الذي ما بعده قول، وهو «الحكمة» التي تختزن دروس التاريخ وتصوغ خلاصته، وأن ما يفعله هو أقوم الأفعال وأرشدها وأشدُّها تعبيراً عن مصلحة البلاد والعباد. وأن القول بضرورة تولي المثقفين أو الأحزاب أو النقابات أو غيرها من المؤسسات “النخبوية” مهمة تثقيف الشعب وتنظيمه في أطر العمل العام بهدف توعيته وإرشاده الى مصالحه، إنما هو نوع من التضليل “النخبوي”؛ وأن العكس هو الصحيح؛ فعلى “النخبة” أن تتلقي الحكمة والحقيقة من الشعب، وأن تتعلم منه وتصغي إليه.
يتهم الشعبويون “النخبة” باحتقار الشعب والجماهير والنظر إليهم من أبراجهم العالية محلقين في تصورات نظرية لا تعدو أن تكون مجرد ثرثرة فارغة بعيدة عن الممارسة العملية للجماهير؛ ومن ثم فإن الشعبويون ينفرون من التنظير ويقدسون العفوية الجماهيرية المتحررة من قيود التنظيم البيروقراطي أو السياسي.
والحقيقة فيما نحسب أن الموقف الشعبوي حيال النخبة لا يخلو تماما من الحقيقة؛ ولكن لا يمكن تعميمه بحيث تضيع ملامح التفاعل الجدلي الضروري والمطلوب بين النخبة والجماهير. لا يستطيع أحد أن ينكر وجود شرائح من النخبة تتعالي على جماهيرها؛ ولكن قد يوجد بين النخب من تتفاعل مع تلك الجماهير وتعيد معها صياغة أحلامها وأمانيها.
الشعبوية وضرورة تجسيد صورة العدو
يقوم الخطاب الشعبوي كما أشرنا علي حشد الجماهير للتماسك والالتفاف حول القائد، ويبرز تراث علم النفس السياسي الدور الذي يمكن أن يلعبه التحدي الخارجي في ضمان تماسك الجماعات، ولم يكن غريبا إذن أن تقوم أجهزة الإعلام والاستخبارات بما يطلق عليه “صناعة صورة العدو”، لدفع جماعة معينة للتماسك في مواجهة تحد خارجي، أو بدفعها للتناحر والتفكك بتصوير أن التهديد قادم من فريق آخر من أبناء الجماعة، أو باصطناع عدو جديد يسحب الأضواء بعيدا عن مصدر التهديد الواقعي لجماعة. وغني عن البيان أنه يصعب خلق صورة من فراغ، ولذا فإن صناع تلك الصور يقيمون صناعتهم مستغلين أحداثا واقعية ليسوا هم صناعها بالضرورة.
لقد لعبت صناعة صورة العدو النازي المتوحش الذي يهدد الدول الديمقراطية دورا بارزا في تماسك دول الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، وما أن انتهت تلك الحرب وانقسم معسكر المنتصرين إلى معسكرين، حتى تبلورت صورة العدو الشيوعي الدكتاتوري الملحد في مقابل العدو الرأسمالي الاستغلالي واستمر صراع الصورتين طوال الحرب الباردة إلى أن سقط الاتحاد السوفييتي؛ ومع بزوغ عصر القطب الأمريكي الواحد بدأت مرحلة جديدة في صناعة صورة العدو. وتحليل الخطاب السياسي المصاحب للترويج لتلك الصورة يكشف بوضوح أنه يعتمد في غرس تلك الصورة وترسيخها لدي الجماهير علي خطاب شعبوي عالي النبرة.
المصطلح عبر التاريخ
للشعبوية حضور واضح منذ أقدم العصور. ففي اليونان القديمة، مع صعود الديماغوجيين من أمثال “كليون “، وانتكاس ديموقراطية أثينا، وما خَلّفَتْهُ من فوضى دفعتْ بأفلاطون وتلميذه أرسطو إلى النظر بِدُونِيّةٍ إلى “جموع الرعاع”، وما ينتج عنهم من “حكم الرعاع”. وقد أثّرَ التخليط وعدم الوضوح في استخدام المصطلحات على مصطلح “الديموقراطية” الذي غدا سلبيَّ المضمون طيلة قرونٍ.
وشهدتِ الإمبراطوريةُ الرومانيةُ صعودَ أباطرةٍ أو ضباطٍ شعبويين استخدموا قدراتهم الخطابية في تحريك “الجموع” عاطفياً، للوصول إلى مآربهم في التسلط الاستبدادي على الحكم. ويعتبر كل من “الأخوين غراكي ” في روما و”يوليوس قيصر ” من أبرز هؤلاء الشعبويين.
كما «الحركة الشعبوية الروسية» بين المثقفين الروس قبل الثورة الروسية البلشفية؛ وعُرف أتباعها باسم «النارودنيك»، وقد بلغ نشاط هذه الجماعة ذروته حينما قامت باغتيال ألكسندر الثاني، قيصر روسيا، عام 1881. وكان أبرز شعارات هذه الحركة الدعوة إلى «العودة إلى الشعب» والاختلاط والاندماج مع الشعب الكادح والعمل على تثويره وخدمة الفلاحين في مطالبهم ومصالحهم اليومية.
ومع قدوم عصر النهضة والتنوير الأوروبي وصعود الحداثة حَوَّلَتِ الثورة الفرنسية “عامة الشعب” من متفرجٍ إلى عنصرٍ فاعلٍ في المشهد العام. وعلى خلاف غيرها من الثورات في بريطانيا أو الولايات المتحدة التي حافظتْ على مُكَوِّنٍ برجوازيٍ مُتَرَابِطٍ ومُنْسَجِمٍ مع الثورة، فقد قامت الثورة الفرنسية على تبنى ممارسات راديكاليةً وشعبوية. ورغم أنها أرست قاعدة الانفصال عن الموروث الاجتماعي والفكري السائد في النظام الإقطاعي القديم إلا أنها انزلقتْ في ممارساتٍ إقصائية انتقامية، مما أفضى إلى عقودٍ من الاضطراب، وسمح بظهور مستبدين جُدُد تسلّقوا على أكتاف “الشعب” في ظل خطاب “شعبوي بامتياز.
وثمة كتاب هام للباحثة اللبنانية مني خويص ، اختارت له عنوانا لافتا تناولت فيه مفهوم القادة الشعبويون، متأملة تلك الصورة التقليدية للقائد الشعبوي يخاطب جماهيره من شرفة القصر، محاولة تحديد مفهوم الشعبوية من خلال كتابها «رجال الشرفات» متتبعة ظاهرة الزعماء الشعبويين منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية الى عصر الربيع العربي مجسدة صورة القائد الشعبوي العربي يخاطب جماهيره من شرفة القصر وأحياناً كثيرة تدمع عيناه وهو ينظر الى الجماهير الوافدة الوفية تنتصر له ولمواقفه في تعبئة لا مثيل لها، وهو يدعي القيادة والتمرد والقيادة والممانعة على الدوام، في أقصى أشكال الشعبوية وحتى من دون تحسين عليها ولا حتى إبداعية سياسية في ظل مناخ تجري صياغته بحيث صارت وحدة الشعب تعني التبعية للقائد والزعيم.
جاذبية الخطاب الشعبوي: من ولماذا
يشير الفيلسوف الباحث السياسي الفرنسي بيير أندريه تاغييف Pierre-André Taguieff إلى أنه من الخطأ مساواة الشعبوية مع الديماغوجية. فالديماغوجي يهدف إلى تضليل الآخرين بينما الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه. ويقول إن للشعبوية عددا من الخصائص الأولية. أولها أنها تمثل ثورة ضد النخبة. وهي تزعم أن السياسة هي شيء سهل ويمكن إدراكها بالنسبة للجميع وأن اعتبارها معقدة يعود إلى مكيدة وضعها النخبويون لإبقاء المواطنين العاديين خارج عملية صنع القرار. ويرى تاغييف أن معظم جمهور الخطاب الشعبوي من الأميين والفقراء خصوصا في المناطق الحضرية، وهي الشريحة التي وصفها كارل ماركس بنبرته النخبوية المترفعة بـ «البروليتاريا الرثة» أو بقاع المجتمع.
وثمة كتاب ذائع الصيت يحمل عنوانا بالغ الدلالة هو ” سيكولوجية الجماهير” للمؤلف الشهير جوستاف لوبون؛ ورغم أن العنوان قد يوحي بأن المؤلف من المتخصصين في علم النفس، ألا أن جوستاف لوبون كان طبيبا رغم ذيوع صيته باعتباره مؤسسا لما يعرف بعلم نفس الجماهير. وتقوم فكرة لوبون على أن الجماهير بحاجة الى من يقودها ويحميها لأنها عبارة عن قطيع لا يستطيع الاستغناء عن راع يقوده. ومعنى هذا ان الجماهير لا تفكر عقلانيا، وهي معرضة للتأثير العميق، ومن يعرف ايهامهم يصبح سيدا عليهم. فالجمهور ” غالبا ما يكون من دون ذاكرة” فلا تحاسبه وتتغاضى عن الوعود التي لا تتحقق.
كما يعتقد لوبون بان جميع كوارث الماضي القريب التي منيت بها فرنسا وكل هزائمها والصعوبات التي تواجهها تعود الى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ وعدم معرفة مواجهتها. يعتقد لوبون بانه لا توجد جماهير من دون قائد، ولا يوجد قائد من دون جماهير. وان تحريض القائد او البطل المحرك للجماهير تشيه تماما لتلك التي يتعرض لها الانسان أثناء التنويم المغناطيسي. فالجماهير تخضع للقائد الذي يفرض نفسه عليها بواسطة القوة وليس الاقناع، فهو يجذبها بسحره وشخصيته، تماما مثلما يفعل المنوم المغناطيسي بمريضه.
ويخلص لوبون الى ان جميع المصائب التي حلت بالبشرية، انما جاءت من مفهومين اساسيين هما: البطل والجمهور. كما اعتقد بان الفاشية والنازية والشيوعية هي تنظيمات فوضوية تخاطب الطبيعة السفلى من الوعي، في محاولة لإعادة الاعتبار للذات وعدم تحويلها الى “صفر” داخل كائن هائل هو الجمهور. كما يرى غوستاف لوبون، بان الجماهير بحاجة الى من يقودهم ويحميهم، لأنهم، أي الجمهور، عبارة عن قطيع لا يستطيع الاستغناء عن راع يقوده. وهذا يعني ان الجمهور لا يفكر عقلانيا دوما وانه معرض للتأثير العميق. فهل حقا ان الجمهور بدون ذاكرة و “عقل”؟! والى من نوجه إصبع الاتهام: الى الجمهور ام الى القائد؟
ولعل من ألمع الأفكار التي طرحها لوبون نظرته إلي النظم التعليمية السائدة باعتبارها مصدرا لانصياع الجماهير للقادة الشعبويون حيث أن التعليم لا يجعل الانسان أكثر أخلاقية ولا أكثر سعادة، ولا يغير أهواءه وغرائزه بل ثد يؤدي الى نتائج ضارة جداً اذا طبق بشكل سيء، وكأنه يقصد أن نصف المتعلم أسوأ من الجاهل، ويستدرك بالقول بأنه لا ننكر أن التعليم يرفع مهنية الشخص لكنه لا يرفع بالضرورة أخلاقه، وسبب هذه المشكلة تعود في رأيه أن الطالب وهو يتعلم يقوم بتكرار القديم دون أن يعمل عقله ويقول رأيه الشخصي بطريقة تجعل عقله يتفتح، ومن ثم فإن المدرسة تهيئ الطالب للوظائف العامة، تهيئه الى أن يكون فرداً في هذه الجماهير.
وتتفق تلك النتيجة مع ما أشارت إليه مني خويص في كتابها الذي سبق أن أشرنا إليه من أنه في منطقة الشرق الأوسط أخذ “الشعب” دور «الرعيّة» وممارسة طقوس الطاعة والخضوع بإذعانٍ مطلقٍ للراعي/الحاكم، الذي يسعى بدوره إلى تعزيز تسلط نظام الحكم عبر استغلال البُنى التقليدية كالعشيرة والقبيلة، والإبقاء على الجهل في صفوف “الشعب”، والحفاظ على مزاجٍ سائدٍ يخضع للعادات والأعراف. واعتاد الكثير من المؤرخين على وصف “الشعب” بالرعاع أو السوْقة أو العوام أو الدُّون وغيرها من نعوت الازدراء التي توضَعُ في مقابل “النخب” من أهل الرياسة والسلطان والعلم والحلِّ والعَقْد. لكن هذا الأمر لم يكن خاضعاً لقواعد مؤسساتيةٍ ثابتةٍ كما كانتْ عليه الحال في أوروبا (نبلاء، كهنوت كَنَسِيّ، حرفيين، فلاحين…) بل كان مستنداً إلى اعتباراتٍ عائليةٍ وقبلية وطبقية. وتخلص مني خويص إلي أنه من أكبر النتائج الكارثية للشعبوية هو قدرتها على اقناع عدد كبير من الشعب وغالبا ما يشكلون الأكثرية للقبول بالسلطة المطلقة للفرد أو لمجموعة من الزعماء.
ولقد أجري علماء النفس العديد من التجارب الميدانية لتقصي جذور تلك الطاعة الجماهيرية ، ولقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة “طاعة خبيثة” تسري في أوصال المجتمعات الحديثة، و قد حاول عالم النفس الشهير ستانلي ميللجرام البحث عن الظروف التي تؤدي بالفرد إلي ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: AGENTIC STATE وهي مشتقة من مصطلح “العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب AGENT” بمعني أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة حتي لقوة معنوية غير منظورة، و أنه في هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته في اتخاذ قرارات مستقلة، و بالتالي لا يتحمل أية مسئولية عن أفعاله أو حتي أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر؛ وحتى أولئك الذين يصدرون الأوامر المباشرة (لاعب دور المجرب في حالة تجارب ميللجرام) قد يصدرون تلك الأوامر في ظل تلك الحالة نفسها بمعني أنهم إنما يحرصون على إرضاء من أصدر لهم الأوامر، فيحيلون المسئولية إلى المستوي الأعلى وهكذا.
لقد شغلت هذه المشكلة منذ حوالي نصف قرن عالم النفس الشهير اريك فروم الذي أصدر كتابا ذاع صيته وتجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف، وكان عنوانه “الهروب من الحرية” . لقد استوقفت فروم ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألماني حول هتلر الدكتاتور العنصري الذي لم يخف يوما عنصريته أو دكتاتوريته. وهاجر فروم من وطنه الأصلي ميمما صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية وملاذ الأحرار، ولم يمض زمن طويل وإذا به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية في أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. وتوصل فروم إلى أن المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسي الاجتماعي الاقتصادي يشكل أبناءه وينشئهم على النفور من الحرية، بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق، ويسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف “البطل” الذي يتيح لهم التخلص من أغلالها، فيسارعون إلى الالتفاف حوله والسير وراءه والانصياع لتوجيهاته دون تفكير أو تردد .
كذلك فقد اهتم الفيلسوف الأمريكي إيريك هوفر Eric Hofferفي مسيرته العلمية الطويلة بمعالجة قضايا الحركات الجماهيرية عبر التاريخ منذ بداية انتشار المسيحية إلى العصور الحديثة، وصدرت الطبعة الأولي لأول وأهم كتبه الذي اختار له عنوانا ملفتا: “المؤمن الحق: تأملات في طبيعة الحركات الجماهيرية”
تناول هوفر في كتابه موضوع الفرد الذي ينتمي إلى الجماعات الجماهيرية، حيث يغدو هو وحدتها البنائية الأولى، مناقشا أسباب الانجذاب للحركات الجماهيرية، ومن هم المرشحون للانتماء إليها من أفراد المجتمع، وإلى أي حدٍ يصل هذا الانتماء.
وعلى خلاف غوستاف لو بون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، فإن إيريك هوفر يرى أن الحركات الجماهيرية هي مجرد تطور طبيعي، وأنها هي أصلاً قد تتطور إلى مرحلة متقدمة، باتجاه “المأسسة”، لكن قبل ذلك يتفق إيريك هوفر مع غوستاف لو بون في إلصاق كل الصفات السيئة والمحبطة في أتباع الحركات الجماهيرية وقادتها.
خلاصة القول
إن وجود القادة الشعبويون وكذلك جماهيرهم، ظاهرة لم يخل منها تاريخ شعب قط؛ ولا شك أن لوجود أولئك القادة واعتمادهم علي الخطاب الشعيوي ضرورة موضوعية في حالة وجود خطر فعلي يهدد الجماعة ويتطلب الحشد الجماهيري لمواجهة الخطر؛ غير أن مكمن الخطورة هو استمرار استمتاع القائد بذلك الزخم الجماهيري الذي يحيط به فيستمر في خطابه الشعبوي حتى إذا ما زال الخطر أو خفت موضوعيا مما قد يغريه باصطناع ذلك الخطر وتضخيمه.
مجلة الديمقراطية
المصدر: https://www.facebook.com/kadry.hefny/posts/10154163907790555