محاضرة عامة: الجوانب النفسية الاجتماعية للصراع العربي الإسرائيلي [المجلس الأعلى للثقافة]

قدري حفني
أستاذ علم النفس – جامعة عين شمس
السيدات و السادة
لعلي لم أعاني يوما من الوقوف محاضرا قدر معاناتي و أنا أقف أمامكم اليوم. ليس ذلك لقليل ألفة بالموضوع، و لا لضباب يحول دون وضوح الرؤية، فالموضوع واضح -لدي علي الأقل- وضوحا ساطعا يكاد يخترق حدود العقل العلمي البارد ليصل إلي أغوار الانفعال، و من هنا كانت المعاناة بهدف التماس ذلك الخط الدقيق الذي يميز –و لا أقول يفصل- بين الانتماء الوطني بل و الإنساني و ما يثيره من وهج انفعالي، و الالتزام العلمي و ما يقتضيه من برود عقلي.
السيدات و السادة
لقد عاش في ظل الصراع العربي الإسرائيلي ما يزيد عن ثمانية أجيال من العرب واليهود: من انتفاضة البراق 1928 إلي مذبحة غزة 2008، بحيث أصبح ذلك الصراع سمة أساسية في حياتهم، تمتد آثاره إلي ما هو أبعد كثيرا من الزعماء السياسيين وصناع الرأي العام لتصل إلى أعماق المجتمع، بحيث يصبح جزءًا من الأغاني والأدب، بل وحتى من اللغة ، و بحيث تصبح الأحداث العنيفة جزءًا من التاريخ الشخصي يتوارثه أبناء الطرفين المتصارعين حتى هؤلاء الذين لم يخدموا في الجيش و لم يسهموا إسهامًا مباشرًا في القتال، حيث لا تخلو ممارساتهم لأفراحهم وأتراحهم واحتفالاتهم الدينية من تداعيات متصلة بالصراع، و تتغلغل تأثيرات هذا النوع من الصراع الطويل في أبنية المجتمع كافة، بحيث يصبح جزءًا لا يتجزأ من أعماق الهوية القومية لأفراد كل جماعة من الجماعات المتصارعة: يشكل صورتهم عن أنفسهم، وإحساسهم بمكانتهم في العالم، بل وأنماط سلوكهم إلي آخره، و غني عن البيان أن صعوبة دراسة مثل ذلك الصراع تتضاعف إذا ما كان القائم بها – شأن امن يشرف بالحديث إليكم-قد نشأ و تحددت هويته القومية منذ البداية منتميا للجماعة المصرية الضالعة في هذا الصراع منذ بدايته.
لقد وقفت في يناير 1974 لأتقدم بأطروحتي للحصول علي درجة الدكتوراه في علم النفس عن “الشخصية الإسرائيلية”، و التي كانت آنذاك عملا رائدا. و لم يخطر لي وقتها أن حجم التغييرات التي سوف تطرأ علي التركيبة الداخلية لكل طرف من أطراف الصراع، و علي طبيعة العلاقات المتبادلة بين تلك الأطراف؛ سوف تجعل مما كان رائدا بمقاييس عصره، مجرد إنجاز تخطاه الزمن بحيث لا يبق منه –إذا ما بقي شيء- سوي التأريخ و المنهج.
لقد طال التغيير ملامح و مواقف و علاقات الأطراف جميعا، و لا يتسع المقام بطبيعة الحال لسرد شامل لتلك التغيرات، و من ثم فإني أستأذنكم في أمور ثلاثة:
الأمر الأول أن يقتصر حديثي –بحكم الوقت المتاح- علي المتغير دون أن أقف طويلا أمام الثابت، باعتبار أن ذلك الثابت أقرب إلي المعلوم بالضرورة.
و الأمر الثاني أن يقتصر حديثي – و بحكم التخصص- علي التغيرات الاجتماعية النفسية
و الأمر الثالث أن يقتصر حديثي قدر المستطاع –و بحكم الأهمية- علي طرفي الصراع الرئيسيين: فلسطين و إسرائيل
و لا يعني ذلك الاقتصار بحال إغفال حقيقة أن التغيرات عبر العقود الثلاثة الماضية تكاد تكون قد شملت المنطقة بكاملها إذا لم تكن تأثيراتها قد امتدت لتشمل العالم جميعا، و أن التغيرات الاجتماعية النفسية لا تمثل سوي جانيا فحسب من جوانب الصراع قد نختلف حول مكانته من حيث الأهمية.
السيدات و السادة
سوف نقف أمام تغيرين أساسيين طرآ علي البنية السكانية ليهود إسرائيل، أري أن لهما علاقة وثيقة بمآل إسرائيل في المستقبل، و بقراراتها في الحاضر، فضلا عن ارتباطهما بما نشهده أمام أعيننا اليوم:
يتعلق التغير الأول بطبيعة تكوين الأجيال اليهودية في إسرائيل، و بالتحديد جيل الصابرا أي أولئك الذين ولدوا في إسرائيل و تربوا في المستوطنات الصهيونية، و الذين كانوا موضوعا لأول دراسة منشورة لي عام 1971 بعنوان “تجسيد الوهم” و أود أن أشير في هذا السياق إلي نموذج بارز من أبناء ذلك الجيل من الصابرا القدامى.
في عام 1928 شدت الرحال من روسيا إلي فلسطين أسرة يهودية صهيونية متشددة تضم مزارعا يدعي صموئيل موردخاي شينرمان و زوجته التي كانت تعمل بالتمريض لتستقر الأسرة في واحدة من أوائل المستوطنات الزراعية اليهودية التي التي أقيمت في فلسطين، و أنجبت الأسرة إثر وصولها الطفل “آرييل” الذي أصبح بعد أن تخلت عائلته عن لقبها الروسي القديم “آرييل شارون” الذي نعرفه جميعا. و لعل شارون – من بين قادة إسرائيل- هو الأوثق ارتباطا بما يجري أمام أعيننا اليوم في غزة: فعلي يدي شارون تم تدمير ما عرف باتفاقيات أوسلو للسلام” حين قام بزيارته الشهيرة للمسجد الأقصى في 28 سبتمبر 2000 و التي تفجرت علي إثرها الانتفاضة الفلسطينية الثانية، و هو صاحب ما عرف بقرار “الانسحاب من غزة من طرف واحد”، و هما القرارين الذين ترتب عليهما ما ترتب من أحداث ما زلنا نشهد تداعياتها حتى اليوم.
كان شارون نموذجا لجيل الصابرا القديم الذي نشأ في أحضان جيل المؤسسين الرواد المقاتلين و تشرب مبادئهم. و توالت أجيال الصابرا و ظلت أعدادهم تتزايد بالتدريج لتصل إلي أن بلغت 60.7% في إحصاءات 1993، ثم إلي 68% عام 2008. أي أنهم يمثلون غالبية يهود إسرائيل اليوم. و لم ينشأ هؤلاء الصابرا الجدد في أحضان جيل أولئك الرواد القدامى المؤسسين، بل نشأت غالبيتهم في ظل دولة قائمة بالفعل، و من ثم فإنهم يفتقدون ذلك التكوين التاريخي المزدوج الذي ميز يهود إسرائيل عند نشأة الدولة.
لقد نشأت في إسرائيل حقيقة سكانية جديدة، وهي أن غالبية سكانها اليوم لا تحمل خبراتهم المعاشة سوي ” التاريخ الإسرائيلي” فحسب، و اختفت من أمتعتهم “حقيبة السفر الجاهزة دوما”، و لم يعد في داخلهم ما كان يشعل حماس جيل المؤسسين الصهاينة من ذكريات الهولوكوست و معاناة اليهود في شرق أوروبا علي التحديد. لقد أصبحوا باختصار أكثر ارتباطا بدولة إسرائيل علي أساس براجماتي جديد.
السيدات و السادة
يتعلق التغير الثاني الذي طرأ علي البنية السكانية في إسرائيل باليهود الروس، و هم أولئك الذين توافدوا علي فلسطين منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، و الذين تصل نسبتهم العددية حوالي 17% من بين من يحملون الهوية الإسرائيلية، و تفوق نسبة الحاصلين علي شهادات جامعية بينهم نظيرتها لدى بقية الإسرائيليين بأربعة أضعاف، و أنهم يضمون نسبة عالية من غير اليهود تبلغ حوالي 30% وفقا لتقديرات الباحث المدقق ماجد الحاج في كتابه عن “الهجرة والتكوين الإثني لدى اليهود الروس في إسرائيل” الصادر عام 2004، و الذي اعتمد فيه على سلسلة من الدراسات الميدانية التي قام بها على مدى عقد من الزمان. و هم بذلك يختلفون كيفيا عن بقية موجات الهجرة اليهودية إلي إسرائيل، إلا فيما يتعلق بتبني مواقف أشد تطرفا حيال الفلسطينيين.
و لعل أهم ما ينبغي الإشارة إليه فيما يتعلق بموضوعنا هو مقاومة هؤلاء المهاجرون الجدد للانصهار في الثقافة العبرية السائدة في إسرائيل و التي حرصت الصهيونية علي ترسيخها لدي أبناء إسرائيل من اليهود. أنهم علي خلاف غيرهم من يهود موجات الهجرة السابقة، لم يتنازلوا عن ثقافتهم الأصلية: إنهم يتحدثون اللغة الروسية التي فرضوها كلغة ثالثة علي أجهزة الإعلام الإسرائيلية الرسمية إلي جانب العبرية و العربية، و هم متمسكون بعاداتهم و تقاليدهم و حتى بمأكولاتهم الروسية حتى اليوم، و يشير ماجد الحاج إلي أنه “في وسط الحي اليهودي بالقدس يوجد متجر لبيع المشروبات و المأكولات المستوردة من روسيا و التي بالتأكيد تخالف الشريعة اليهودية لأنها على سبيل المثال تبيع اللحم و السمك الذي لم يشرف عليه حاخام يهودي. واللافتات داخل المتجر كتبت بالروسية و إن كانت مكتوبة في الخارج باللغتين الروسية و العبرية”.
و لم يقتصر الأمر علي الاحتفاظ باللغة والعادات و التقاليد الروسية القديمة، بل لقد شكلوا داخل إسرائيل تجمعاتهم السياسية الخاصة، و لعل أبرزها هو حزب (إسرائيل بيتينو) أي إسرائيل بيتنا و الذي أسسه في مارس 1999 ، افغدور ليبرمان، و يكفي أن نشير إلي بعض ما يتضمنه برنامج الحزب فيما يتعلق بالموقف من الفلسطينيين: يطالب الحزب بضرورة “فصل الضفة عن القطاع فصلا تاما، في كل مناحي الحياة والى الأبد، بحيث يصبح هناك كيانين منفصلين في الضفة والقطاع، و علي إسرائيل التعامل مع كل كيان بشكل مختلف، وان المفاوضات مع أبو مازن يجب أن تتركز على الضفة فقط، و اعتبار كافة الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات السابقة مع السلطة الفلسطينية لاغيه”
السيدات و السادة
لقد جرت تلك التغيرات التي أشرنا إليها في الحقبة التي تلت ما يعرف باتفاقيات السلام و ما ترتب عليها من صعوبة التركيز الصهيوني علي ما يواجه إسرائيل من مخاطر الإبادة علي أيدي العرب، و مع تزايد نسبة الصابرا و قدوم المهاجرين الروس أوشكت إسرائيل أن تجد نفسها في وضع شبيه بما واجهته عند نشأتها عندما فتحت أبوابها لاستجلاب ما يمكنها استجلابه من يهود العالم بصرف النظر عن تباين أصولهم الحضارية، و كان علي صناع دولة إسرائيل آنذاك صياغة آلية فعالة لصهر ذلك الشتات المتنافر ليصبح سبيكة واحدة متماسكة، و وجدوا ضالتهم في زرع الإحساس بالخطر في أعماقهم بحيث يحسون دوما أن العالم المحيط بهم -أي العالم العربي- يهددهم بالفناء، مع تأكيد مواز للقدرة العسكرية الإسرائيلية علي التصدي لذلك التهديد. وكانت تلك هي المهمة الأساسية التي مارسها باقتدار قادة ومؤسسو إسرائيل: يروعون بها يهود إسرائيل لينصهروا في مواجهة الخطر، و يروعون بها يهود العالم ليزداد التفافهم حول إسرائيل، و يكسبون من خلالها المزيد من تعاطف العالم الغربي مع إسرائيل، فضلا عن محاولة تخدير الشارع العربي، بتدعيم إحساس زائف بأننا -علي ما نحن عليه- الطرف الأقوى الذي يثير رعبا لا قبل لإسرائيل بتحمله.
ولقد بدأت أكذوبة التهديد العربي المرعب لإسرائيل في التآكل منذ زيارة الرئيس السادات للقدس، وتزايد التآكل مع معاهدة السلام، فهاهي مصر كبري الدول العربية تقيم سلاما مع إسرائيل. ثم تتالت الأحداث إلي مؤتمر مدريد 1990 إلي اتفاقية أوسلو 1993 وإذا بالفلسطينيين أيضا -وهم من هم بالنسبة للشارع اليهودي الإسرائيلي- يقبلون بإقامة سلام مع دولة إسرائيل، ويليهم الأردنيون. وأخذت التأثيرات الطبيعية لتآكل أكذوبة التهديد العربي المرعب تحدث فعلها في الشارع اليهودي في إسرائيل، وذلك وفقا لقانون سلوكي نفسي اجتماعي بسيط مؤداه أن السلام والاستقرار أدعي لظهور التباينات والصراعات الداخلية، في حين أن الإحساس بالتهديد والخطر أدعي للتوحد والانصهار. و عادة ما تستطيع الكيانات الطبيعية بحكم تكوينها التاريخي أن تتحمل آلام الصراعات الداخلية الطبيعية الناجمة عن السلام باعتبارها في النهاية لا تؤدي إلي ما تؤدي إليه الحرب من دمار.
و إذا كانت تلك الآلية الصهيونية الإسرائيلية قد أخذت في التآكل مع اتفاقيات السلام، فقد تزايد تآكلها مع تزايد أعداد الصابرا و قدوم المهاجرين السوفييت. و لم يكن بد أمام إسرائيل من إعادة تفعيل تلك الآلية، و بدأت العجلة في الدوران بزيارة شارون التي أشرنا إليها للمسجد الأقصى لتنفجر انتفاضة الأقصى و ليحل رصاص كتائب الأقصى التابعة لفتح ثم كتائب القسام التابعة لحماس محل الحجارة سلاح الانتفاضة الأولي، ثم لا يلبث شارون بعد الانتخابات الفلسطينية أن يقدم علي قراره بالانسحاب من غزة من طرف واحد مع استمرار تطويقها. و كان من الطبيعي أن تتداعي الأحداث لتصل إلي ما نحن عليه: انتهاكات إسرائيلية استفزازية تدفع بحماس إلي عدم تجديد الهدنة و إلي ممارسة حقها في مقاومة الاحتلال بالسلاح الذي تمتلكه، و تنهال حمم الجحيم الإسرائيلي علي غزة، ليتحد الشارع الإسرائيلي تحت أشد الشعارات يمينية و تطرفا لمواجهة الخطر الفلسطيني الأصولي الإسلامي.
خلاصة القول أن إسرائيل مازالت تسعي لترويج أكذوبتها الضخمة ومحاولة مخادعتنا، ومخادعة العالم، بل ومخادعة الشارع الإسرائيلي أيضًا بتصوير ما جري من صمود فلسطيني للمذبحة الإسرائيلية باعتباره قتالا مسلحا بين طرفين، كما لو كانت “القوات المسلحة الفلسطينية” هي البادئة بالحرب الرافضة للعودة إلي السلام، وأن كل ما تفعله إسرائيل هو الدفاع عن حياتها وحياة مواطنيها المسالمين.
السيدات و السادة
ها نحن قد عدنا إلي ما استهللنا به حديثنا: العدوان الإسرائيلي علي غزة الذي خططت له إسرائيل و كان من ضمن أهدافه إلي جانب صهر الداخل الإسرائيلي، إنهاء “أساطير السلام”، و تكريس الانقسام الفلسطيني بقيام كيان فلسطيني رافض للسلام علي حدود إسرائيل.
تري ماذا عن التغييرات التي جرت بالمقابل في الواقع الفلسطيني؟
لقد أصبح من المسلمات البديهية القول بأن الخطر الذي تستشعره الجماعة يوحدها في مواجهته: وقائع التاريخ تؤكد ذلك، و أيضا تجارب علم النفس الاجتماعي و السياسي، فضلا عن الخبرات الواقعية اليومية في مختلف مجالات الحياة: من ساحات مباريات كرة القدم إلي ساحات الحروب، و من عصابات التهريب إلي جماعات المقاومة المسلحة.
و لقد أشرنا مرارا إلي أن تراث علم النفس السياسي يبرز الدور الذي يمكن أن يلعبه التحدي الخارجي في تقوية تماسك الجماعات, إلي حد بزوغ ما يطلق عليه في تراث علم النفس السياسي “صناعة صورة العدو” بهدف دفع جماعة معينة يهددها التفكك نحو التماسك و ذلك بتضخيم خطر خارجي أو حتى اختلاقه اختلاقا، و لقد كان قيام دولة إسرائيل بتضخيم “الخطر العربي المحتمل” تجسيدا لتلك الحقيقة العلمية التاريخية، ولم نكن نحن العرب في حاجة لبذل جهد كبير لاختلاق أو تضخيم الخطر الإسرائيلي، فهو متجسد بالفعل أمام العيون و العقول العربية عبر سنوات طوال اجتاحت فيها جيوش إسرائيل حدودنا أكثر من مرة، و ارتكبت فيه ما ارتكبته من مذابح.
لقد بدأ حديثنا عن الخطر الصهيوني قبل قيام دولة إسرائيل و ما زال مستمرا حتى اليوم. و لعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا أن الدول العربية لم تتفق علي موضوع قط قدر اتفاقها علي خطورة إسرائيل و الصهيونية، حتى أن كلمة “تحرير فلسطين” قد تحولت إلي أيقونة تلجأ إليها العديد من السلطات العربية لتبرير إحكام قبضتها علي شعوبها، كما تلجأ إليها العديد من التنظيمات المعارضة لحشد صفوف المعارضين للسلطة، و ما أن ينهار نظام عربي إلا و يتضمن البيان الأول للنظام الجديد بشكل مباشر أو غير مباشر وعدا بتحرير فلسطين و تخوينا للنظام السابق الذي تهاون في مواجهة العدو الصهيوني. و لم يحل اعتراف مصر و الأردن بل و منظمة التحرير بإسرائيل، و إقدام عدد من الدول العربية علي إقامة علاقات إعلامية و اقتصادية بل و حتى رياضية مع إسرائيل، دون استمرار انطلاق المظاهرات الشعبية و الإعلامية في كافة الدول العربية دون استثناء تتصاعد هتافاتها إلي عنان السماء تدين التطبيع مع العدو الصهيوني و تدعو لتحرير فلسطين.
و رغم ذلك كله فقد ظل التفتت العربي علي حاله؛ بل و امتدت الشروخ إلي الشعب الفلسطيني فوجدنا أنفسنا حيال المفاضلة بين “غزة الفلسطينية المسلمة” المحتلة و “رام الله الفلسطينية المستسلمة” المحتلة أيضا، و في ظل ذلك التفتت و التطاحن المركب ما زال الجميع و دون أي استثناء يواصلون الصراخ محذرين من الخطر الصهيوني، و راح كل طرف يلقي بوزر عرقلة القضية علي الطرف الآخر. و استمرت محرقة غزة ما يزيد عن الأسابيع الثلاثة، فإذا بها تضخم الانقسام العربي، و تجسد الانقسام الفلسطيني.
السيدات و السادة
يفيض تراث علم النفس السياسي بكم هائل من الدراسات النظرية و الميدانية التي تدور حول الديمقراطية نظرية و تطبيقا، و تكاد تلك الدراسات أن تجمع علي أن الانتخابات الشفافة النزيهة هي بمثابة صمام الأمان لضمان امتصاص خلافات الجماعة من خلال التزام الأقلية بما تراه الأغلبية، و لكن ما حدث علي الساحة الفلسطينية يبدو للوهلة الأولي مناقضا لما انتهت إليه تلك الدراسات.
لقد تم انتخاب أبومازن في يناير2005 في انتخابات شفافة وتحت إشراف مراقبين دوليين, و تقدمت حماس لانتخابات يناير2006 التي أجريت أيضا بشفافية ونزاهة و فازت فيها بغالبية مقاعد المجلس التشريعي, و أصبحنا حيال موقف فريد لعله غير مسبوق: شرعيتان فلسطينيتان تحتلان موقع القيادة رغم تناقضهما فكريا و عقائديا و سياسيا. و توالت محاولات البحث عن إيجاد قاسم مشترك بين السلطة المنتخبة و الحكومة المنتخبة, و وجدت تلك المحاولات أنها حيال أمرين كلاهما مستحيل: يستحيل أن تتنازل حماس –شأن أي تنظيم عقائدي- عن منطلقاتها الفكرية الأساسية، ومستحيل كذلك ان تولي السلطة الفلسطينية ظهرها لاتفاقات أوسلو وما تضمنته من اعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود, و إلا فقدت أساس شرعية وجودها و الاعتراف الدولي بها؛ ومن ثم فقد كان سقف تنازلات الطرفين لا يتجاوز الاتفاق علي نصوص غامضة يستطيع كل طرف تأويلها وفقا لرؤيته السياسية الأساسية. وفي خضم ذلك البحث عن المستحيل الفلسطيني سعت إسرائيل و تسعى بدأب لبلوغ الحد الأقصى من الممكن الإسرائيلي, وهو سعي ليس بالجديد.
و سرعان ما تقاتل الفريقان، و توجسنا أن يتحول القتال إلي حرب أهلية، و إذا به يتحول إلي ما هو أسوأ فالحروب الأهلية عادة ما تستمر حتى يحقق أحد الأطراف نصرا حاسما علي الطرف الآخر تتحقق به الوحدة بصرف النظر عن هوية الطرف المنتصر, غير أن السيناريو الأسوأ هو أن ينتهي القتال سريعا دون أن يحقق أحد الأطراف نصرا حاسما يوحد به الوطن و بتجمد القتال يتم تكريس الانفصال، و نصبح حيال الاحتمال الأكثر سوءا: أن يتعمق الانفصال فيصل إلي ما يطلق عليه “تفكك الهوية” أو انشطارها
السيدات و السادة
يعد مفهوم “هوية الجماعة” من المفاهيم الأساسية التي تناولتها دراسات علم النفس السياسي، ويكون تماسك الجماعة بقدر اتفاق أفرادها علي ملامح تلك الهوية. و يعد تعدد و تصارع الانتماءات الأساسية للجماعة نذيرا بتفككها ما لم تتفق الجماعة علي تدريج تلك الانتماءات وفقا لأهميتها. و لعلي لا أتجاوز حين أشير إلي أن ثمة عملية مخاض عنيفة تجري في عالمنا العربي تتصارع خلالها هويات ثلاث:
1- هوية إسلامية عالمية تقوم علي أننا ننتمي للأمة الإسلامية التي ما زالت تتوق إلي استرجاع توحدها تحت راية دولة إسلامية واحدة، و أن ما نعانيه من وهن و ما نواجهه من هزائم و ما يعتور تقدمنا من عثرات إنما يرجع إلي ابتعادنا عن صحيح الدين.
2- هوية قومية عربية تري أننا في الحقيقة أمة عربية واحدة تمتد حدودها من الخليج إلي المحيط.، و أن ما نعانيه من وهن و ما نواجهه من هزائم و ما يعتور تقدمنا من عثرات إنما يرجع إلي تفتتنا و عدم وحدة صفوفنا تحت الراية العربية.
3- هوية وطنية تربط بين الدولة و الوطن، و تري أننا دول مستقلة يجمعنا الجوار و تجمعنا اللغة و يجمعنا أن غالبيتنا من المسلمين السنة، و لكننا في النهاية دول مستقلة تتساوي أصواتنا عند التصويت علي قرارات مجلس الجامعة العربية، حيث لا فرق بين “الشقيقة الكبرى” و الشقيقات الأصغر، و لكل دولة عربية معايير أمنها القومي كما يراه قادتها.
و إذا كانت تلك الدول العربية المستقلة –إيا كانت طبيعة و حدود استقلالها- تستطيع أن تحتوي آلام و مخاطر هذا الصراع، و أن تؤجل –و لو إلي حين- تحول تلك المخاطر إلي حقائق علي الأرض؛ فإن لنا أن نتساءل وجلين: هل يمكن أن يكون ذلك الانقسام الفلسطيني دليلا –و لا أقول نذيرا- بحسم ذلك المخاض علي أرض الواقع الفلسطيني علي الأقل؟
إن أجيالا متعاقبة من الشعب الفلسطيني عاشت و ما زالت في شتات بالغ التعقيد لا بد و أن يترك –بحكم قوانين التنشئة و السلوك- بصماته علي الجانب المتغير من أنماط سلوكهم و اتجاهاتهم، غير أن الانقسام الفلسطيني الراهن إذا ما استمر يمكن أن يترك بصماته علي الجانب الأعمق من الهوية الفلسطينية الأساسية. و إلي هنا ينتهي الحديث
السيدات و السادة
لعلي قد استغرقت وقتا أطول مما قدرت و قدرتم، و لكني أستأذنكم في أن أخلع مؤقتا ثوب الالتزام العلمي و ما يقتضيه من عقل بارد، فإنه يعز علي أن ينتهي لقاؤنا دون أن أحني هامتي احتراما لأرواح صعدت إلي بارئها في أتون معارك ممتدة من 1928 إلي 2008، أرواح بالآلاف حصدتها آلة الحرب و الاستخبارات الصهيونية. أكاد ألمح من بينها وجوها شرفت بالاقتراب منها، و أخري شرفت بالسماع عنها. من أبوجهاد إلي الرنتيسي، و من جواد أبوشعر إلي دلال المغربي، و من أحمد ياسين إلي أبوعمار.
و لكن يختلط الاحترام و الإجلال بكثير من الأسى بل و الغضب لمن سقطوا برصاص عربي بل و فلسطيني من صابرا و شاتيلا إلي تل الزعتر و طرابلس بل و غزة و من الشهيد الفلسطيني احمد موسى أول شهداء حركة فتح 1965 إلي الضابط المصرى ياسر فريج آخر شهداء مصر 2008
السيدات و السادة
شكرا لحسن إصغائكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *